أخبار ذات صلة
ذهاب الاستثمارات العربية في سراب الأندية الرياضية الأوروبية لم يعدْ يخفى البهرج الخداع في الإعلام الرياضي العربي، ذلك إلى درجة استخدام قنوات المباريات والأخبار كأداة في المنافسة بين بعض الصناديق السيادية العربية، حتى اندرج الإعلام الرياضي تحت مُسمَّى: “القوة الناعمة”.
وبدلاً من توجيه المشاهدين نحو ممارسة الرياضة وبناء إنسان بصحة عقلية ونفسية إيجابية وانتقاله نحو الاحتراف، نجد أنَّ بعض هذه القنوات تسعى إلى جعل المشاهد العربي عبارة عن حصالة نقود، تسحب منها الآلة الإعلامية بغير تقدير إلى المحتوى التنموي أو إلى مسؤوليتها الاجتماعية. وهكذا، كنا نشاهد في التسعينيات معظم البطولات العالمية بشكل شبه مجاني، تحت راية اتحاد إذاعات الدولة العربية، ثم استحوذ رأس المال على الرياضة، جاعلاً منها صناعة وتجارة إعلامية.
حتى أنَّ بعض القنوات لا تخجل من إجبار مذيعيها على الإعلان عن بعض العروض الترويجية للمشاهدة المدفوعة، رغم أنَّ هذا الأمر يتعارض مع مكانة المذيع والمحتوى الإخباري الرياضي. أمَّا في هذه الأيام، فقد أصبحت “موضة” شراء الأندية الرياضية الأوروبية بأموال صناديق الاستثمارات السيادية العربية هي الشغل الشاغل للإعلام الرياضي بشكلٍ خاصٍّ؛ حيث تضخُّ الآلة الإعلامية العربية مبالغ طائلةٍ على قنواتٍ رياضيةٍ ذات حقوق بثٍّ حصريةٍ بغرض الترويج لصورةٍ رياضيةٍ مُشرِّفةٍ مُموَّلةٍ من هذه الصناديق.
وفي الحقيقة، إنَّ شراء الأندية الرياضية -كشركات مساهمة تجارية- ليس بدعةً عربية، بل هو أمر طبيعي نتيجة التحوُّل نحو الطبيعة الحرة في الاقتصاد حتى في المؤسسات الاجتماعية كالأندية الرياضية، حيث نشاهد العديد من المستثمرين الأجانب يتنافسون على ملكية الأندية الرياضية. لكن المشكلة العربية العميقة تبقى في ثقافة التقليد بعد الانبهار بالتجارب الأوروبية في الاستثمار؛ فحتى التجارب العربية الناجحة رياضياً بعد شراء بعض الأندية الأوروبية، ليست ناجحة استثمارياً على المدى الطويل، فالنادي بعد أن يصبح سعره مرتفعاً لن يخاطر أحد على شرائه وتمويله، وبالتالي أصبح النادي الناجح استثماراً جامداً يصرف على نفسه، لكنه لا يضمن من المستقبل البعيد شيئاً، ولا يضخ من الأرباح ما يوازي التكلفة والسيولة الهائلة التي تضخ فيه.
فالاستثمار الرياضي يحمل الخصائص التالية: • الأندية الرياضية باتت ذات طبيعة إعلامية أكثر منها بدنية. • العلامة التجارية للنادي وشعاراته وقمصانه وأسعار حقوق انتقال لاعبيه، باتت تُشكِّل الثقل الأكبر في ميزان مركزه المالي، أكثر حتى من عقاراته وأصوله. • قدرة النادي على تحمُّل الهزَّات المالية ضعيفة جداً، حيث إنَّ النادي يقف دائماً على شِفَا هاوية من الهبوط في حال اهتزاز أدائه وسقوطه في تعادلاتٍ أو خسائرٍ متتاليةٍ. • المخاطر المالية في الاستثمار بالأندية مرتفعة جداً، لأنَّ أيَّ فشل في صفقة استقدام لاعب أو مدرب سيؤدِّي بشكٍلٍ مباشرٍ إلى اهتزاز صورة النادي وقيمة السوقية. • تعتمد الأندية على الشعبية الجماهيرية بشكلٍ أساسيِّ في خططها الاستراتيجية للتسويق، وهذه الشعبية حسَّاسة جداً للنتائج، فإذا انخفض مستوى النتائج تنخفض الشعبية تدريجياً مع مرور الوقت، وتخسر العلامة التجارية للنادي قيمتها. • حالة التنافس الكبير بين الأندية، تُجبِرُهَا على استقدام لاعبين بأسعار خيالية رغبةً بالمنافسة في الإطار الرياضي والإعلامي، لكن هذا الأمر قد يؤدِّي إلى زيادة نفقات النادي على حساب إيراداته بالنظر إلى مداخيل النادي. • رواتب اللاعبين الخرافية، تجعل من أية ميزانيةٍ استثماريةٍ تَحسِبُ ألف حساب قبل شراء نادٍ رياضيٍّ
حيث إنَّ عدم القدرة على تسديد هذه الرواتب سيجعلها أمام خياراتٍ مأساويةٍ مثل الاستدانة على أمل تحسن النتائج، وقد يصل الأمر الحد إلى الإفلاس ومعاقبة النادي بهبوطه إلى درجاتٍ دنيا من المنافسات. كل هذه الخصائص، تجعل من الاستثمار في الأندية الرياضية الأوروبية بعيداً عن الأهداف الأساسية للصناديق السيادية؛ تلك التي تحتاج إلى استثمارات مستقرة طويلة المدى، تزيد من قوة الاقتصاد الوطني، وترفع شيئاً فشيئاً من التنمية ومستوى معيشة المواطنين، وتوجد ضمانات لمستقبل الأجيال القادمة.
خاصَّة أنَّ قيم الأندية الأوروبية الناجحة باتت بمليارات اليوروهات، الأمر الذي يجعل شراء مثل هذه الأندية تجميداً خطراً للسيولة، أمَّا عن شراء نادٍ صغيرٍ أو متوسِّط وبنائه حتى يصبح بعلامةٍ تجاريةٍ ناجحةٍ، فهي مهمَّةٌ محفوفةٌ بالمخاطر والظروف الرياضية التي لا يمكن توقعها. والأدهى والأمر، أن نرى الأموال العربية تغدق بسخاء على منافساتٍ معنويةٍ وتقليدٍ إعلاميٍّ بين الدول العربية، رغم أنَّ هذه الأموال تستند بالأساس على ثروةٍ ناضبةٍ؛ حيث إنَّ ما يعوز الصناديق العربية هو التفكير في المصلحة العامة، وليس في الصورة الإعلامية البحتة التي تتلاعب بمستقبل أجيال قادمة. فقد كان الأجدر بالصناديق السيادية العربية أن تستثمر في قطاعات الرياضة الوطنية، حيث نُشاهِدُ أنَّ الاحتراف الرياضي العربي خجولٌ أو غائبٌ تماماً؛ حتى أنَّنا نجد لاعباً عربياً يصول ويجول في أوروبا بعد تطبيق نظام الاحتراف عليه، فيما نجد أقدام اللاعبين غير المحترفين ترتجف في المباريات الدولية. كما أنَّ القطاع الرياضي العربي بحاجةٍ إلى بناءٍ من القواعد، ليس بناء الملاعب الفارغة التي تصدح فيها الشمس بغرض البهرجة الإعلامية أو ناطحات السحاب التي تأوي اللاعبين الأجانب، بل بناء العقل الرياضي العربي ابتداءً من ثقافة ممارسة الرياضة حتى تكوين الإنسان الرياضي المحترف. عندها كنَّا سنجد الأموال الأجنبية هي التي تتنافس على شراء الأندية العربية، وليس العكس.
وإذا أردنا ربط موضوع الاستثمار الرياضي وتقلباته، بطبيعة الصناديق السيادية العربية واحتياجاتها، فعلينا النظر إلى محورين أساسيين من الدول العربية:
نجد أنَّ الدول العربية التي تمتلك السيولة الريعية، ليس لدى أغلبها قوة صناعية عميقة تحمي تقلبات أسعار الثروات التي تعتمد الميزانية عليها.
في حين أنَّ الدول العربية ذات الاقتصاد الصناعي والزراعي، فهي أصبحت مرهقة من صعوبة المنافسة العالمية ومن ارتفاع مستويات البطالة، يضاف إلى ذلك عشرية 2011 التي دفعت المنطقة إلى حالة من عدم الاستقرار يخشاها المستثمرون، ثم جاءت أزمة كورونا حتى تُكمِلَ كل ما سبق من ظروف سلبية. بالتالي، فإنَّ ما تحتاجه الصناديق السيادية العربية هو استثمارات مستقرَّة في أصولٍ حقيقيةٍ قليلة المخاطر تحفظ قيمة الأموال العامة في هذه الظروف حتى وإن كانت ذات أرباح متوسِّطةٍ أو منخفضةٍ، بعدها يمكن تخصيص جزءٍ من الميزانية الاستثمارية لإنشاء مشاريع تجارية في قطاعات الاقتصاد الحقيقي؛ مثل المقاولات العقارية التجارية، وصناعة البتروكيميائيات، والصناعات الغذائية المستندة على المحاصيل الوطنية. بهذه الطريقة فقط يساهم الصندوق السيادي في تنمية الاقتصاد الوطني، وتحويله من اقتصادٍ مستوردٍ إلى اقتصادٍ منتجٍ ومُصدِّرٍ. أمَّا بذخ الأموال العربية في ظلِّ مكايداتٍ ومهاتراتٍ استثماريةٍ رياضيةٍ، فهو عبارةٌ عن عدم نضجٍ في استخدام الأموال العامة ناتجٌ عن قلة خبرةٍ، وقصر نظرٍ، وضيق رؤيةٍ. بقلم: د. همام القوصي (دكتوراه بالقانون التجاري تخصص أنظمة بورصة الأوراق المالية).