أرشيف

د. همام القوصى يكتب: “الفلسفة الضريبية جنَّة أم جحيم” 1

alx adv

تَظهَرُ أحياناً دوائر الدخل والإنفاق على شكل حركةٍ سريعةٍ خاطفةٍ، لا تَتْرُكُ الشخص أمام أيِّ خيارٍ سوى إلغاء جميع مشاريعِهِ، والتضييق على نفسه حتى يَصِلَ إلى درجة الاقتراض ثم يغرق بالديون.

ويكون السبب أحد أمرَيْن:

• إمَّا أنَّ الدخل قليلٌ، بالمقارنة مع تكلفة المعيشة،

• أو أنَّ نسبة العبء الضريبي ثقيلٌ جداً، بالمقارنة مع قوة التحمُّل المالي للفئة المُسْتَهْدَفَةِ من الضريبة.

وفي الحالتَيْن يكون الدخل عبارةً عن تغطيةٍ جزئيةٍ للنفقات، قد لا تتجاوز أسبوع من الشهر الواحد.

وبغض النظر عن فكرة ارتفاع تكلفة المعيشة، فإنَّ حالة ارتفاع العبء الضريبي هي محل النظر في هذه المقالة.

وإذا رجعنا إلى الفلسفة التي تتبنَّاها الدول إزاء الضريبة، سنَجِدُ أنواعاً عديدةً، يمكننا اختصارها بأهم نوعَيْن:

الجنَّة الضريبية؛ وهي نوعٌ من الدول التي تَجتَذِبُ الاستثمارات بشكلٍ مبالغٍ فيه، ذلك إلى درجة فتح أبواب السوق المحلية حتى تلتَهِمُهَا الشركات العالمية عابرة القارات، وهنا تكادُ تَختَفِي ضريبة الدخل الصافي على المنشآت.
لكن الجنة الضريبة قد تَتَعامل مع الأفراد العاديِّين غير المستثمرين من المواطنين أو الوافدين بشكلٍ مُغَايرٍ، حيث تقوم بفرض ضرائبٍ مرتفعةً على الاستهلاك؛ فالجنة الضريبية هي ملاذٌ للأثرياء وليس المستهلكين الفقراء.

الجحيم الضريبي؛ وهي نوعٌ من الدول شديدة التحفُّظ إزاء سوقِهَا الاستثماري، بما يؤدِّي إلى فَرضِهَا لضرائبٍ مبالغٍ فيها على الاستثمارات، بغضٍّ النظر عمَّا سيُشَكِّلُ ذلك من مناخٍ سلبيٍّ.
في المقابل، قد تكون هذه الدول متساهلةً جداً مع الأفراد العاديِّين من غير التجَّار، ذلك إلى درجة عدم وجود ضريبة قيمةٍ مضافةٍ نهائياً، وحتى عدم السعي لتحصيل الضرائب المستحقَّة للدولة على الأفراد إذا قدَّرت الحكومة وجود ظروفٍ ماليةٍ مُعينةٍ.

فإذا أردنا تحليل هاتين الصورَتَيْن، وجدنا أنَّ الفلسفة الضريبية للدول تَعتَمِدُ بالأساس على إحدى الفكرتَيْن التاليتَيْن؛

• إمَّا نقل العبء الضريبي من المستثمرين إلى المستهلكين لجذب الاستثمار،

• أو نقل العبء الضريبي من المستهلكين إلى المستثمرين لرفع مستوى معيشة الأفراد.

ومن النادر أن نَجِدَ دولاً تتبنَّى رؤيةً ضريبيةً صارمةً بالمطلق على الجميع أو متساهلة بالمطلق مع الجميع؛ لأنَّ الدولة التي تَفرِضُ عبئاً ضريبياً شاملاً ستَخرُجُ منها الاستثمارات، وسيكون مواطِنُوهَا عرضةً للفقر الشديد، أمَّا الدولة التي لا تَفرِضُ أيَّ عبءٍ ضريبيٍّ يُذْكَرُ على الجميع ستكون عرضةً للإفلاس، ويصبح لديها عجزٌ ماليٌّ كبيرٌ.
بالتالي، تختار الدول إحدى طريقتَيْن:

فتح مجال الاستثمار دون قيودٍ ضريبيةٍ؛ بغاية تحريك السوق وخفض مستوى البطالة وتحصيل فائضٍ من العملات الأجنبية، فيما يكون دخل الدولة الضريبي من جيوب الأفراد المستهلكين.
لكن المشكلة في هذه الطريقة أنَّ الفقر قد يعمُّ فئات المستهلكين، وهكذا لن تَجِدَ الاستثمارات طَلَبَاً لسلعها وخدماتها، ثم تخرج من السوق، تاركةً دولةً مفلسةً وأفراداً فُقراء.

فرض عبءٍ ضريبيٍّ ثقيلٍ على الاستثمارات؛ بغاية تحصيل أكبر قدرٍ ممكنٍ من الدخل، وتجنيب دخل الأفراد من العبء الضريبي، ثم توزيع الفائض على المواطنين على شكل خدماتٍ عامةٍ، ومشاريع تنميةٍ استراتيجيةٍ.

تكمن المشكلة الأساسية في هذه الطريقة، في أنَّ الدولة ستَجِدُ أنَّ العبء المالي يرزح كلُّه عليها، حيث إنَّ الاستثمارات ستُغَادِرُ البلاد خوفاً من ازدياد العبء الضريبي عليها، وسيَكُون على الدولة إيجاد مواردٍ ماليةٍ بعيداً عن جيوب الأفراد.

هذا بالنسبة للرؤية الضريبية الشاملة العامة، أمَّا على صعيد الرؤية الجزئية، فقد تتعامل الدولة بانتقائيةٍ مع بعض الوقائع؛ فَتَفْرِضُ عليها الضريبة لغايةٍ مُحدَّدةٍ.

مثل فرض ضريبةٍ عقاريةٍ مرتفعةٍ على أصحاب الأراضي البوار التي لا يَقُومُ مالكوها بترخيصها للبناء؛ حيث تكون الغاية من الضريبة هي دفع مُلاَّك الأراضي البوار إلى بناء وحداتٍ سكنيةٍ بهدف تخفيف أزمة السكن.

وفي المقابل، قد تقوم الدولة برفع العبء الضريبي عن السلع الاستهلاكية الخاصَّة بالأدوات المنزلية والملابس بهدفٍ اجتماعيٍّ وليس ماليٍّ؛ مثل تشجيع الأفراد على تجهيز بيوتهم، وتخفيض تكاليف التجهيز للزواج.

لكن يبقى –برأينا- تصنيف الدولة على أنَّها جنةٌ ضريبيةٌ أم جحيمٌ ضريبيٌّ مُستَنِدَاً بالأساس على ضريبتَيْن أساسيَّتَيْن يتمُّ استِخدَامُهُمَا كأدواتٍ لتنفيذ السياسة الضريبية؛ وهما:

• الضريبة على الدخل الصافي: التي يتمُّ فرضها على شكل نسبةٍ من الأرباح السنوية لمؤسَّسات الأعمال، وهي تُعتَبَر أداةً للدولة حتى تجذب الاستثمار عندما تقوم بتخفيض الضريبة على الدخل أو بفرض نسبة الصفر الضريبي على تأسيس المشروع وعلى أرباحه التي قد تتشكَّل خلال أول سنوات العمل.

• الضريبة على القيمة المضافة: وهي ضريبةٌ محلُّ جدلٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ لأنَّها تنقل العبء الضريبي من المؤسَّسات التجارية إلى المستهلكين بشكلٍ مباشرٍ؛ وهكذا تستهدف الرؤية الضريبية هنا تحقيق جذبٍ استثماريٍّ على حساب المستهلكين بالدرجة الأولى، ممَّا قد يؤدِّي إلى انتشار الغلاء، والتضخُّم، والفقر.

وإذا نظرنا إلى الدول المُتَقَدِّمَة، وجدناها قد تبنَّت فلسفةً ضريبيةً واضحةً وناجحةً بالنظر إلى إمكانيَّاتِهَا وثرَوَاتِهَا ودرجة ثراء مواطِنِيهَا؛ فمثلاً نجد دولاً غربيةً ذات عبءٍ ضريبيٍّ مرتفعٍ جداً على المستهلكين، لكن مع مستوى دخلٍ مرتفعٍ، يستطيع تغطية معظم العبء الضريبي الاستهلاكي، وهكذا يتمُّ جذب الاستثمار وتجنُّب الفقر أو التضخُّم.

ونجد دولاً أخرى، ذات منهجٍ مُتحفِّظ إزاء الاستثمار الخاص، وعبءٍ ضريبيٍّ شبه معدوم على الأفراد، لكن تكون الدولة من القوة في اقتصادها وقدرتها الاستثمارية؛ بحيث يكون قطاعها العام بشركاته ومؤسَّساته قادِرَاً على تغطية أية ثغرةٍ يَترُكُهَا الاستثمار الخاص.

وبالنظر إلى معظم الدول العربية، سنجد أنَّ فلسفتها الضريبية تتَّجه اليوم نحو الفكر المُتَسَاهِل مع الاستثمار الخاص؛ عن طريق تقديم إعفاءاتٍ ضريبيةٍ واسعةٍ للمستثمرين، في مقابل اتجاهٍ كبيرٍ نحو فرض ضرائبٍ على الأفراد، وفي مقدمتها ضريبة القيمة المضافة.
والمشكلة، هي أنَّ اقتصاديات الدول العربية غير متبلورةٍ بالشكل الذي يَسمَحُ بتحديد طبيعتها، وما إذا كانت ستنجح في تحقيق أهدافها؛ حيث إنَّ معظم هذه الدول كانت تتدخَّل في الأسواق كطرفٍ قائمٍ عبر القطاع العام، وكانت تَعتَمِدُ ليس فقط إعفاءاتٍ ضريبيةٍ على المستهلكين، بل كانت تُقدِّمُ دعماً استهلاكياً مباشراً للأفراد من خزينة الدولة.

فكيف يمكن للناس تقبُّل فكرة انتقال الرؤية الضريبية إلى التركيز على جيوب المستهلكين بدلاً من أرباح الاستثمارات؟
وماذا يمكن للناس أن يفعلوا لمواجهة الغلاء؟
كيف يمكن لشرائح الموظفين في القطاعين الخاص والعام مواجهة الغلاء؟
وماذا عن الطبقة الفقيرة من المجتمع؟

هذه التساؤلات وأكثر، ستكون موضوع الجزء الثاني من هذه المقالة بإذن الله.

 

 

 

يقدم فريق بوابة عالم المال، تغطية حصرية ولحظية على مدار الساعة ، لآخر مستجدات البورصة والشركات المدرجة، البنوك وأسعار الدولاروالتأمين، العقاري، والصناعة والتجارة والتموين، الزراعة، الاتصالات، السياحة والطيران، الطاقة والبترول، نقل ولوجيستيات، سيارات، كما نحلل الأرقام والإحصائيات الصادرة عن المؤسسات والشركات والجهات من خلال الإنفو جراف والرسوم البيانية، الفيديو، فضلا عن تقديم عدد من البرامج المتخصة لتحليل كل ما يتعلق بالاقتصاد المصري من خلال تليفزيون عالم المال.

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار