تقبع ثنائية الخلود / الفناء فى اللاوعي الجمعي Collective Unconscious حيث تعود إلى قصة الخلق الأولى، وعلاقة آدم “بشجرة الخُلد” التي حذر القرآن من يأكل منها: “فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ (طه 120). ونزل آدم فى الكتاب المقدس إلى الأرض بعدما أكل من “شجرة المعرفة” محروماً من الخلود، معذباً، فانياً على الأرض لتبدأ رحلته في استعادة الفردوس، ومن ثم الخلود. ويقول الرسول بطرس تعبيراً عن خلاص خلود الإنسان الممتد من السيد المسيح: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذى حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي، بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ فى السماوات لأجلكم” (بطرس 4-3:1)، كما يعلن الرسول بولس: “مخلصنا يسوع المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل” (10.1). وفى الإسلام، الروح والجسد نقيضان متلازمان، ينفصلان ليتحدا، لتتصالح الثنائية فى أسمى صورها: “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ” (طه 55). وفى الهندوسية، تذوب “اتمان” Atman – الذات الفردية – فى “براهما” Brahman – ماهية العالم وأصل كل الموجودات – لتعلن “ايتمان”: “أنا هو براهما” I am Brahman لتتحقق وحدة الخلود. وفى البوذية تتحقق النرفانا Nirvana – توقف الغرائز فى طوباوية الخلود – عندما يصل الإنسان إلى الكمال بعد سلسلة متصلة من الموت والولادة ليصبح زاهداً، ناسكاً. واتخذت الزرداشتية ثنائية الخير والشر فى وجود قوة أعظم من الإنسان هي سبب الخلق، وهي قوة الخير (الإله اهورا مزدا Ahura Mazda) تقابلها قوة الشر (الإله اهريمن Ahriman). والإنسان يحاسب هنا في العالم الآخر؛ فيعاقب الأشرار بالفناء، ويثاب الأخيار بالخلود.
وكان ولع القدماء فى الشرق والغرب بتحقيق الخلود ظاهراً، جلياً. فمنهم من حاول اكتشاف حجر الفلاسفة The Philosopher’s Stone من خلال إعادة تركيب العناصر الأولية للوجود كي يتحقق الخلود بتناول هذا الإكسير السائل الخرافي. كما أتى القدماء بالعديد من الرموز للإشارة إلى الخلود، هروباً من الفناء. فها هي الأفعى The Serpent رمز غائر للخلود فى الأديان والأساطير: فهى مَنْ أغوت حواء لتأكل التفاحة المُحرمة لتفنى البشرية، وتُخلد الأفعى؛ وهى مَنْ أكلت نبتة الخلود فى أسطورة “جلجامش” Gilgamesh لتنعم هي بالخلود ويفنى البطل؛ وهى من تصاحب الملوك الفراعنة فى رحلتهم الأخيرة نحو تحقيق الخلود؛ وهى الكامنة فى شجرة الحياة الزرادشتية، لا تتزحزح، مذكرة بشجرة المعرفة العبرانية. وبالتالي، فهى دوماً رمز الحياة والشفاء التى تغير جلدها لتحيا المرة تلو الأخرى. ثم هناك طائر العنقاء Phoenix الأسطوري، الخالد في قصص سندباد في “ألف ليلة وليلة” الذي يموت كل ألف سنة محروقاً ليولد جديداً من رماده. وهناك “مفتاح الحياة” الأبدية Ankh عند القدماء المصريين الذي يرمز للحياة بعد الموت، ويحمله الآلهة والملوك الفراعنة. والثنائية حاضرة أيضاً بقوة فى أسطورة عشتار Ishtar البابلية، حيث يُعقد الإتفاق بين عالم الأموات وعالم الأحياء فتعيش عشتار ستة أشهر في عالم الأموات وستة أشهر في عالم الأحياء، فحينما تهل عشتار إلى العالم العلوي تنبعث الحياة في الطبيعة (فصلا الربيع والصيف)، وعندما تعود الى العالم السفلى تتوقف الحياة ويغيم الحزن (فصلا الخريف والشتاء).
الاستاذ الدكتور/ أسامة مدني
عميد كلية الآداب جامعة المنوفية