يَستَغرِبُ بعض الأصدقاء عندما أَشرَحُ لهم بأنَّ الإنسانَ ثروةٌ، ليس بالــــمفهومِ النظريِّ الفلسفيِّ، بل بالمعنى المصطلحيِّ العلميِّ في مجالات الاستثمارِ، والميزانيةِ، والتخطيطِ الاستراتيجيِّ؛ إنَّ الإنسان ثروةٌ حقيقيةٌ يُقَالُ لِصَاحِبِهَا بأنَّ لَدَيهِ مَورِدٌ بشريٌّ قابلٌ للاستثمارِ والاستغلالِ، أو حتى التصديرِ لِمَن لا يُقدِّر قيمةَ الشبابِ. وفي هذا الزمنِ، نَرَى الدولَ الصناعيةَ الكبرى تَتعامَلُ مع طَاقَتِنَا البشريةِ وكأنَّها كنزٌ ثمينٌ، نَجِدُ تلكَ الدولِ ذاتِ الماضي الاستعماريِّ الـمُشِينِ، تَستَمِيلُ شَبَابَنَا العربيَّ؛ تارةً بمغرياتِ العملِ والأجرِ، وتارةً أخرى بعروضِ الإقامةِ من دولِ عروضِ الهجرةِ الـمَلغُومةِ، والتجنيسِ الوَهمِيِّ. فلا يَظُنَّنَّ الشابُّ العربيُّ بأنَّ تلكَ الدولُ سَتَقَبَلُ أحداً من نَسْلِ العروبةِ والإسلامِ في نَسِيجِهَا الاجتماعيِّ، ذلك إذا لم تتأكَّدْ من أنَّ الشخصَ قد انسَلَخَ من عُروبَتِهِ وقِيَمِهِ، وأنَّه أَضحَى انتِمَاؤُهُ لِقِيَمِهَا الغربيةِ، حتى وإن كانت تلكَ القِيَمُ مُعَادِيَةً لِوَطَنِهِ الأمِّ.
على الرَّغمِ من هذا الـمُقَابِلُ الـمَرفُوضُ مِن أيِّ إنسانٍ شريفٍ، إلاَّ أنَّ البعضَ من الشبابِ العربيِّ، مِنَ الذينَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، ومَاتَ لَدَيهِمُ الأَمَلُ؛ قد قَبِلُوا بأيِّ تَنَازُلٍ كانَ في سبيلِ تَوفِيرِ لُقمةِ العيشِ، وتحقيقِ مُستَقبَلٍ أَفضَلٍ، حتى وإن كانتْ دَفَّةُ الهجرة بلا عودةٍ تتَّجِهُ نحوَ مِيناءِ الأعداءِ.
لا يَعرِفُ الكثير من هؤلاءِ الشبابِ، بأنَّهم همُ ثروةُ هذا الوطنِ الكبيرِ، وأنَّههمُ أملُهُ ورَجَاؤُهُ، وأنَّ هِجرَتَهُم إلى جبهةٍ غربيةٍ مُعَادِيَةٍ يُسَاوِي في ميزانِ الأخلاقِ انزِلاقاً صَرِيحَاً في وَحلِ الغَدرِ، وطَعنِ الوطنِ من الظَّهرِ.
فَفِي اليومِ الذي باتَ فيه العملُ عَن بعدٍ أمراً أساسياً، وليس مُمْكِناً فقط، بل أصبَحَ العَمَلُ عَن بعدٍ قِطاعَاً اقتصادياً كَامِلاً، حتى أنَّ بعض الدول صَارَتْ تُقَدِّمُ مزايا للموظَّفين عن بعدٍ، خاصَّةً من حيث الإقامة؛ لأنَّ تلك الدول سَيَدخُلُ إلى خَزِينَتِهَا نقدٌ أجنبيٌّ نَظِيرَ رَوَاتِبِ العاملين عن بعدٍ لديها؛ عَبرَ حوالاتٍ خارجيةٍ.
ففي هذا اليومِ الذي نَعِيشُ، هل يُعقَلُ أن يَسْعَى الشبابُ العربيُّ إلى الرحيلِ، والسفرِ، لأجلِ عُيُونِ وظيفةِ الاغترابِ التقليديةِ، وهُنا نَتَحَدَّثُ عن الاغترابِ نحوَ بعض الدولِ الغربيةِ التي لـَمَّعَتْ صُورَتَهَا بالإعلامِ المضلِّلِ، ذلك إلى درجةِ الحياةِ الـمِثَالِيةِ، وأنَّى لها ذلك.
هذا إذا أَضَفْنَا -بالمعالجةِ المنطقيةِ- أنَّ وظائفَ الاغترابِ التقليديةِ بَاتَتْ أَصعَبَ ما يكون بالنظرِ إلى تضاعُفِ عددِ الخريِّجينَ العربِ، وتَقَادُمِ معظمِ مناهجِ الجامعاتِ العربيةِ، والتعَامُلِ الانتِقَائِيِّ لدى بعضِ دُوَلِ استقطابِ العمالةِ الأجنبيةِ الغربيةِ؛ بالنظر إلى جنسيةِ طَالِبِ العملِ.
لقد أَضحَى الحصولُ على وظيفةِ مُغتَرِبٍ في الدولِ الأجنبيةِ الغربيةِ أمراً يَشبِهُ المستحيلَ، فهو مُرتَبِطٌ بالدرجة الأولى بالعلاقاتِ، ومستوى الرضا عن جنسيةِ العاملِ، وللأسفِ أيضاً “التنازلات”؛ فالبعض يَقبَلُ في مُقَابِلِ “وظيفةٍ غربيةٍ” وراتبٍ ومَظهَرٍ اجتِمَاعِيٍّ، أنْ يُسَافِرَ حتى يَتَقَوَّلَ على وَطَنِهِ ما لم يَقُلْ، ويَطعَنَ في رُمُوزِهِ، ثم يُدَاهِنُ أعدَاءَهُ، ويَشُدُّ مِن أَزْرِ طَعَّانِي أمَّتَهُ، فَيَالَلْصَفَاقَةِ! البعضُ في مقابلِ “الوظيفةِ الغربيةِ” قد أَصبَحَ دُميَةً هَزلِيةً؛ يَضحَكُ من ذُلـِّها وخُضُوعِهَا حتى مَن شَغَّلَهَا، إنَّهَا دُميَةٌ لإِرضَاءِ السَّاديَّةِ، التي تُرِيدُنَا أنْ نَتَحَوَّلَ إلى مُعَسكَرٍ مَن الوَهنِ والطأطأةِ والانحناءِ.
هذا ونحنُ نتحدَّث عن “الوظيفة”، فما بَالُنَا بالإقامةِ الدائِمَةِ الغربيةِ التي بَاتَتْ -في مُعظَمِهَا- تَأخُذُ ألوان العَارِ، والعبوديةِ، والانصِيَاعِ لأحلامِ الهجرةِ باتجاهِ غروبِ الشمسِ.
اليوم نَتَسَاءَلُ.. ماذا يَمنَعُ الشابَّ العربيَّ الشريفَ من تَحسِينَ مَعَارِفَهُ التقنيةَ، وتطويرِ العلومِ الجامعيةِ التي كانَ قَد حَصَلَ عليها، وتحسِينِ لُغَتِهِ، وصَقلِ وشخصيَّتهِ حتى تُوَاكِبَ هذا العَصرَ.
أَتَسَاءَلُ… ما الذي يَمنَعُ الشابَّ العربيَّ مِنَ التواصِلِ مع أصحابِ العملِ في الدولِ العربيةِ الـمُستَقْطِبَةِ للعمَالَةِ والخبراتِ؟ الحقيقةُ، لا يُوجَدُ لدى الشابِّ العربيِّ ما يَمنَعُهُ من هذا سِوَى ضَعفِ الخبرةِ في أنظمةِ العملِ، واحتياجاتِ السوقِ خَارِجَ دَولَتِهِ، وهي مَعَارِفٌ يَسِيرَةٌ، يمكن تَحصِيلُهَا عبر الإنترنت، ثم التوَاصُلِ مع أصحابِ العملِ.
فَمَا أَجمَلَ مِن بَقَاءِ الـخَرِّيجِ العربيِّ في دَولَتِهِ مُعزَّزاً مُكَرَّماً دُونَ ضُغُوطٍ غير عَادِلَةٍ عليه، وأن يَتَعَامَلَ مع أَشِقَّائِهِ العربِ في تَوَاصُلٍ عَمَليٍّ وأَخَويٍّ. وحتى من الناحيةِ الماليةِ، فإنَّ الأجرَ سيكونُ أكثرَ فائدةً للعاملِ عن بعدٍ، لأنَّهُ سَيَتَقَاضَى أجرَهُ بعُملَةٍ أعلى قيمةً من عملة بَلَدِهِ؛ لذا سيكونُ الأمرُ عَادِلاً، ومُجزِيَاً مالياً.
أَوَلَيْسَ العملُ عن بعدٍ أهوَنَ ألفَ مَرةٍ من مَذلَّةِ وظَائِفِ الاغْتِرَابِ والهجرةِ إلى ظُلُمَاتِ الضبابِ الغربيِّ! فَمِن أَينَ أَتَى هذا التخلِّي عن العنفوانِ العربيِّ الـمُضَمَّخُ بدماءِ أَجدَادِنَا لدى بعض طَالِبِي العملِ والجنسيةِ، بل طَالِبِي الوَهمِ؟! كيفَ بَاتَ أحفَادُ الوليدِ والرشيدِ يَطرُقُونَ أبوابَ الدولِ والأمصَارِ الغربيةِ خانعينَ، بعد أن كانَ الإنسانُ العربيُّ منارةً من العلمِ والحضارةِ يَستَضِيءُ بها الغربُ ذاتهُ؟!! إنَّ كُتُبَ التاريخِ العربيِّ تَكَادُ تَصرَخُ من شِدَّة الألم، وتَكَادُ أورَاقُهَا تُعتَصَرُ وتَتَفَجَّرُ مِن دجلةٍ في وَجهِ هولاكو.
فالغُزَاةُ أَضحَوا يَنتَظِرُونَ قُدُومَ فِتيَانِ العربِ لِعِندِهِم، وعلى شُطْآنِهِم؛ حتى يَبدَأَ احتِلالُ “الإنسانِ” بَدَلَ “الأوطانِ”.
فما هو سببُ كلِّ هذه المأساةِ الإنسانيةِ العربيةِ الملحميةِ؟ بِغَضِّ النظرِ عن تَقَاذُفِ المسؤولياتِ، فعلى الشابِّ العربيِّ أنْ يَنْظُرَ إلى نَفسِهِ أولاً، عليهِ أنْ يُحَاسِبَ نَفسَهُ على كلِّ قَطرةِ وَقتٍ تَسَربَّتْ من بين يَدَيهِ ذَاهِبَةً بلا طَائِلٍ.
الوقتُ.. الوقتُ أيُّها الشباب، عليكم باستغلالِ الوقتِ، بُكُلِّ مُفيدٍ، وتَغطِيةِ الجديدِ بالأحدثِ يَومَاً بَعدَ يومٍ من العلوم بكلِّ حِرْصٍ ومُتَابَعَةٍ. فالشابُّ الناجِحُ؛ هو ليس ذلكَ الذي يُعَلِّقُ الشهاداتِ على الحائِطِ، بل الذي لا يَكفِيهِ الحائِطُ لِتَعلِيقِ مَعَارِفِهِ، وعُلُومِهِ، وإمكانيَّاتهِ، ومُرونَتِهِ، وشخصيَّتهِ، واتِّساعِ مَدَارِكِهِ، وخَيالهِ، وخِبرَاتِهِ الـمُتَرَاكِمَةِ بلا تَوقُّفٍ.
هو ذاكَ الشابُّ الذي لا تَقِفُ الحدودُ أَمَامَهُ، ولا يَعرِفُ للمُستَحِيلِ معنى، الذي لا يَحسِدُ مَن هو أفضلَ مَنه، أو يُؤذِي حتى يَتَجَاوَزَ المنافسين؛ بل الذي يَترُكُ مُنَافِسِيهِ من جميعِ الأجيالِ عَاجِزيِنَ عن إِدرَاكِهِ.
إنَّ إهدَارَ الوقتِ في هذا الزمنِ الذي يَتَسَارَعُ فيه تطوُّرُ العلومِ بين يومٍ وآخرٍ، لَـهُوَ “العدميةُ الكبرى”، تلك التي تَجعَلُ من الإنسانِ مَشلُولاً مُستَسلِماً للفشلِ والانهِزَامِ.
إنَّها العدميةُ التي تَمنَحُ الشابَّ شُعُورَاً بِأنَّه لا قيمةَ لهُ، ولا وزن في المستقبل؛ فلا يُوجَدُ أيُّ حقيقةٍ وَاضِحَةٍ أمامَهُ، ولا مَعنى ولا هدفٍ لهُ. إنَّها العدميةُ التي تَجعَلُ الشابَّ يَرمِي بِنَفسِهِ في مُستَنقَعِ الضياعِ، واللاَّمعنى، والانهيار.
إنَّ آلةَ الوقتِ لا تَعُودُ للوراءِ، لكنَّنا نَستَطِيعُ تغييرَ ما تَبَقَّى منها، واستِنطَاقَ اللحظاتِ القادِمَةِ حتى تَبُوحُ بِمَجدِ أمَّتِنَا التَّلِيدِ.