
خلف خطوط الرمال.. خريطة زراعية تولد من قلب التحدي في 11 عامًا
في زمن يشهد العالم فيه تقلبات عاصفة تتراوح بين الحروب والتغيرات المناخية وارتباك سلاسل الإمداد العالمية، اختارت الدولة المصرية أن تواجه التحديات بسياسات واعية، ورؤية متكاملة تهدف إلى تحقيق أمن غذائي حقيقي، وتحويل الزراعة من قطاع تقليدي إلى ركيزة استراتيجية للأمن القومي والتنمية المستدامة.
خلال الـ11 عامًا الماضية، كان القطاع الزراعي على موعد مع تحولات غير مسبوقة، تعكس إيمان القيادة السياسية بدور الزراعة كمفتاح للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، لا سيما في ظل تضاؤل الموارد وتزايد الطلب على الغذاء، فبينما كانت الكثير من دول العالم تتراجع أمام صدمات المناخ والتوريد، كانت مصر تمضي بثقة في تنفيذ رؤية وطنية طموحة للزراعة، مدعومة بإرادة سياسية وتخطيط علمي، واستثمارات بمليارات الجنيهات لإعادة رسم الخريطة الزراعية للبلاد.
ولم يكن هذا التوجه مجرد استجابة للأزمات الطارئة، بل نابعًا من استراتيجية طويلة المدى، وضعتها الدولة ضمن رؤية مصر 2030، وارتكزت على مفهوم التنمية الزراعية المستدامة، من حيث التوسع الأفقي والرأسي، والتكامل بين الزراعة والصناعة، ودعم صغار المزارعين، وإدماج التكنولوجيا والتحول الرقمي، وفتح أسواق جديدة أمام المنتجات المصرية، وبناء احتياطات استراتيجية من السلع، وتهيئة مناخ جاذب للاستثمار الزراعي.
توشكى والدلتا الجديدة وسيناء.. حين تتحول الصحراء إلى سلة غذاء
أحد أبرز وجوه التحول في القطاع الزراعي المصري تجسده مشروعات التوسع الأفقي، التي حملت شعار غزو الصحراء، باعتبارها السبيل الأكثر واقعية لزيادة الرقعة المزروعة وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وقد دشنت الدولة عددًا من المشروعات القومية العملاقة على رأسها مشروع “توشكى الخير” الذي يمتد على مساحة 1.1 مليون فدان، ومشروع “الدلتا الجديدة” الأضخم بمساحة 2.2 مليون فدان، ومشروع “تنمية شمال ووسط سيناء” بنحو 456 ألف فدان، إلى جانب مشروع “تنمية الريف المصري” الذي يغطي 1.5 مليون فدان.
ولم تكن هذه المشروعات مجرد أرقام على ورق، بل مواقع تشهد تنفيذًا مكثفًا رغم ارتفاع التكاليف، حيث تسير أعمال الاستصلاح والبنية التحتية والري بأقصى معدلات الإنجاز، كما تشمل الخطة استصلاح 650 ألف فدان في جنوب الصعيد والوادي الجديد، و18 تجمعًا زراعيًا تنمويًا في شمال وجنوب سيناء، يستفيد منها أكثر من ألفي أسرة من أبناء سيناء والمحافظات الأخرى، بما يشمل توزيع الأراضي والوحدات السكنية، ودمج السكان في النشاط الإنتاجي.
الاكتفاء الذاتي يبدأ من البذرة.. مصر تقلل الاعتماد على الخارج
وفي إطار دعم القدرة الإنتاجية محليًا، تبنت وزارة الزراعة برنامجًا وطنيًا طموحًا لإنتاج تقاوي محاصيل الخضر، بهدف تقليل الاعتماد على استيراد البذور من الخارج، حيث كانت مصر تستورد أكثر من 95% من بذور الخضر، وقد نجح البرنامج في استنباط وتسجيل 26 صنفًا وهجينًا لعشرة محاصيل رئيسية من بينها الطماطم، الفلفل، الباذنجان، الكنتالوب، والبازلاء، بالتعاون مع شركات عالمية من الهند والبرازيل وغيرها، ما ساهم في تخفيض التكلفة على المزارعين وتوفير النقد الأجنبي للدولة.
الصادرات الزراعية.. شهادة جودة مصرية في 160 سوقًا عالميًا
على صعيد الأسواق الخارجية، حققت الصادرات الزراعية المصرية طفرة كبيرة، إذ تغزو اليوم 405 سلعة زراعية مصرية نحو 160 سوقًا حول العالم، وتربعت مصر على عرش صادرات البرتقال عالميًا من حيث الكمية للعام الثالث على التوالي، كما نجحت الدولة في رفع القيود والفحوصات الإضافية التي كانت مفروضة على بعض الحاصلات مثل العنب والفراولة في أسواق الخليج وأوروبا، بفضل التنسيق بين وزارات الزراعة والتجارة والخارجية والمجلس التصديري.
وقد سجلت الصادرات الزراعية حتى الآن نحو 4.8 مليون طن، بزيادة نصف مليون طن مقارنة بالعام السابق، ما يعكس تصاعد الثقة في جودة الحاصلات المصرية، ويؤكد نجاح خطة الدولة في دعم التنافسية وفتح أسواق جديدة.
احتياطي استراتيجي وسعات تخزينية غير مسبوقة
لم تغفل الدولة أيضًا عن ضرورة تأمين مخزون كافٍ من السلع الاستراتيجية، فتم إطلاق المشروع القومي للصوامع، لترتفع القدرة التخزينية إلى أكثر من 5.5 مليون طن. كما اتُخذت إجراءات لتوسيع مناشئ استيراد المحاصيل الاستراتيجية كوسيلة للتنوع والحماية من تقلبات الأسواق، خاصة في ظل الأزمات العالمية.
وفي ملف القمح تحديدًا، استهدفت الوزارة الوصول إلى 7 آلاف حقل إرشادي في الموسم الحالي، مع تخصيص حقل لكل جمعية، مما ساهم في رفع الإنتاجية وتحسين الجودة.
من البحيرات إلى المزارع.. ثورة في الثروة السمكية والتلقيح الاصطناعي
شهدت الثروة الحيوانية والسمكية بدورها نهضة واضحة، إذ تم إنشاء 600 نقطة للتلقيح الاصطناعي في الوحدات البيطرية بمختلف المحافظات، إلى جانب إطلاق المشروع القومي لتنمية البحيرات المصرية، وتحويلها إلى مصدر إنتاجي منظم، وأصبحت مصر الثالثة عالميًا في إنتاج سمك البلطي، والأولى إفريقيًا في الاستزراع السمكي، وصدرت تشريعات جديدة لتنظيم استغلال البحيرات، وتم طرح 21 موقعًا للاستزراع بالأقفاص البحرية في البحرين المتوسط والأحمر.
دعم صغار المزارعين وتحسين معيشة الريف
في إطار التمكين الاقتصادي والاجتماعي، كثفت وزارة الزراعة التعاون مع شركاء التنمية الدوليين، وحصلت على تمويلات ومساعدات فنية بقيمة 350 مليون دولار لدعم صغار المزارعين، وتحسين الدخول، وتوسيع مظلة التمويل الميسر، كما تتحمل الوزارة نصف تكلفة تقاوي محاصيل استراتيجية مثل القمح والفول والشعير، وتوزع شتلات الزيتون والتين والنخيل مجانًا أو بأسعار رمزية.
وفي المناطق الحدودية والبدوية، تم تنفيذ مشروعات لحفر الآبار العميقة، وإنشاء محطات الطاقة الشمسية، وتنفيذ أعمال مكافحة التصحر، بما يدعم استقرار المجتمعات الريفية وتحفيز النشاط الزراعي في أطراف الجمهورية.
الزراعة الذكية والتحول الرقمي.. خطوة نحو المستقبل
استجابة لمتغيرات العصر، أولت الوزارة اهتمامًا خاصًا بملف التحول الرقمي والزراعة الذكية، فأطلقت أكثر من 20 خدمة زراعية إلكترونية، ونجحت في تفعيل منظومة “كارت الفلاح”، وأطلقت المنصة الزراعية الرقمية الموحدة، كما تم ربط الموانئ بمنظومة الحجر الزراعي إلكترونيًا، وتطوير الإنذار المناخي المبكر لتقليل آثار التغيرات المناخية على المحاصيل، إلى جانب المشروع القومي لتطوير زراعة قصب السكر بالشتل بدلًا من الطريقة التقليدية.