
المحاصيل الزيتية.. ثروة مهدرة بين فجوة الإنتاج وضغوط الاستيراد
على الرغم من تنوع المناخ المصري وملاءمته لزراعة العديد من المحاصيل، لا تزال مصر تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد الزيوت النباتية من الخارج، لتغطية احتياجات مواطنيها التي تتجاوز مليوني طن سنويًا، هذه الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستهلاك تمثل واحدة من أكبر التحديات أمام تحقيق الأمن الغذائي، خاصة في ظل تقلبات أسعار الزيوت عالميًا وارتفاع تكاليف الاستيراد، وفي الوقت الذي يمتلك فيه القطاع الزراعي فرصة ذهبية للتوسع في زراعة المحاصيل الزيتية، يظل حجم المساحات المزروعة محدودًا، ما يفرض تساؤلات حول أسباب هذا التراجع والحلول الممكنة.
محاصيل قادرة على سد الفجوة
تضم قائمة المحاصيل الزيتية التي يمكن لمصر الاعتماد عليها لتقليص الاستيراد مجموعة متنوعة، لكل منها مميزات اقتصادية وزراعية، يأتي في المقدمة عباد الشمس الذي يتميز بقصر فترة نموه وجودة زيته، ما يجعله مثاليًا للإدخال في الدورات الزراعية القصيرة، يليه فول الصويا الذي يجمع بين إنتاج الزيت والبروتين، ويوفر مادة أساسية لصناعة الأعلاف.
كذلك يبرز الكانولا أو “اللفت الزيتي” الذي ينتج زيتًا صحيًا منخفض الكوليسترول، ويمتاز بتحمله لدرجات الحرارة المختلفة، أما الفول السوداني، فإلى جانب كونه محصولًا غذائيًا مربحًا، ينتج زيتًا عالي الجودة، بينما يقدم السمسم زيتًا ذا قيمة غذائية عالية يستخدم في الطهي والصناعات الطبية، حتى بذور القطن، التي كانت لسنوات مصدرًا مهمًا لزيت القطن، يمكن أن تساهم في مزيج الإنتاج المحلي إذا أُعيد الاهتمام بها.
إنتاج محلي لا يكفي
الأرقام تكشف حجم الفجوة بوضوح؛ إذ تشير التقديرات إلى أن مصر تنتج ما يغطي أقل من 10% من احتياجاتها من الزيوت النباتية، وبحسب بيانات القطاع، يبلغ إجمالي إنتاج البذور الزيتية بضع مئات الآلاف من الأطنان سنويًا، بينما يتجاوز حجم الاستهلاك المحلي من الزيوت المكررة مليوني طن، هذا العجز يجعل البلاد عرضة لتقلبات الأسعار العالمية وتقليص المعروض في أوقات الأزمات، كما حدث خلال أزمة الغذاء العالمية وجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، حيث شهدت الأسواق ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الزيوت.
أسباب الفجوة
تعود أسباب تراجع إنتاج المحاصيل الزيتية إلى عدة عوامل متشابكة، في مقدمتها ضعف العائد الاقتصادي للمزارعين مقارنة بمحاصيل أخرى، وتراجع الدعم التسويقي، فضلًا عن محدودية المساحات المخصصة لهذه المحاصيل في الخريطة الزراعية، وضعف الوعي بأهميتها الإستراتيجية، كما أن غياب الزراعة التعاقدية بشكل واسع، وارتفاع تكلفة التقاوي والأسمدة، يحدان من إقبال المزارعين على زراعتها.
خطوات على طريق الاكتفاء
لتقليص الاعتماد على الاستيراد، يؤكد الخبراء أن الحل يكمن في الجمع بين التوسع الأفقي بزراعة المحاصيل الزيتية في الأراضي المستصلحة الجديدة، والتوسع الرأسي عبر رفع إنتاجية الفدان باستخدام أصناف عالية الجودة، وتقنيات ري حديثة، وبرامج تسميد متوازنة، كما أن تفعيل الزراعة التعاقدية يضمن للمزارع تسويق محصوله بسعر مرضٍ قبل بدء الموسم، وهو ما يشجعه على التوسع، إضافة إلى ذلك، يمكن دمج المحاصيل الزيتية في الدورة الزراعية مع الحبوب والخضر، لزيادة العائد للمزارع دون التأثير على الأمن الغذائي للمحاصيل الأخرى.
دور البحث العلمي والتدريب
المعاهد البحثية في مصر، وعلى رأسها معهد المحاصيل الحقلية، تمتلك برامج لتطوير أصناف جديدة مقاومة للأمراض والآفات وتلائم الظروف المناخية المختلفة، لكن توسيع نطاق هذه الأصناف يحتاج إلى دعم مالي ولوجستي أكبر، وتعاون وثيق مع المزارعين، كما أن نشر الوعي عبر برامج إرشادية وتدريبية حول أساليب الزراعة والحصاد والتخزين السليم للبذور الزيتية، يعد خطوة أساسية للحفاظ على الجودة وزيادة العائد.
أمل في تقليص الفجوة
ورغم أن الوصول إلى الاكتفاء الذاتي الكامل من الزيوت النباتية قد يستغرق سنوات، فإن التوسع المدروس في زراعة المحاصيل الزيتية يمكن أن يقلل من فاتورة الاستيراد بشكل تدريجي، ويعزز الأمن الغذائي، ويفتح المجال أمام صناعات تحويلية توفر فرص عمل وتدعم الاقتصاد الوطني، وفي ظل التحديات العالمية، تبدو هذه الخطوة ضرورة إستراتيجية لا تحتمل التأجيل.
وبدوره قال الدكتور الحسيني النني، أستاذ المحاصيل الزيتية بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، إن مصر تعتمد بشكل كبير على استيراد الزيوت الخام لتلبية احتياجاتها الغذائية، حيث يصل الاستهلاك السنوي إلى نحو 2.2 مليون طن.
وأوضح أن الدولة بدأت خطوات جادة لتحقيق الاكتفاء الذاتي عبر التوسع في زراعة المحاصيل الزيتية، خاصة في مناطق توشكى وشرق العوينات ومشروع “مستقبل مصر”.
وأشار النني إلى أن المحاصيل الزيتية المزروعة حاليًا تغطي نحو 10% فقط من احتياجات السوق المحلي، أي ما يعادل 20 ألف طن سنويًا، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا نظرًا لاعتماد مصر على الواردات، الأمر الذي يجعلها عرضة لتقلبات الأسعار العالمية وأزمات الإمداد.
وأضاف أن التوسع في زراعة هذه المحاصيل، مثل عباد الشمس وفول الصويا، من شأنه تقليل الاعتماد على الاستيراد وتعزيز الأمن الغذائي، إلى جانب دوره في استقرار الأسعار محليًا. كما سيسهم في خلق فرص عمل جديدة في القطاع الزراعي والصناعات التحويلية، وتقليل العجز في الميزان التجاري، بما يدعم التنمية الاقتصادية المستدامة.