• logo ads 2

عالم المال: غسل الأموال.. العبودية الجديدة

alx adv


 يَظهرُ الثراء على بعض الأشخاص فجأةً، تراهم يقودون سياراتٍ باهظة الثمن، ويرتدون ملابساً تنتمي إلى أحدث مواسم الأزياء، ترى أملاكهم تتعاظم دون أيِّ مصدرِ دخلٍ واضحٍ لهم.

ينتمي مُعظم هؤلاء إلى فئةٍ طارئةٍ على مجتمعنا تُسمَّى: “مُحْدَثِيْ النعمة”. 

 تَكتسب شخصية مُحدَثِ النعمة خصائصاً بارزةً، مثل التكبُّر والمُبالغة في التلويح بمظاهر الثراء، وجذب الأنظار، وكثرة الأسفار، والتنكُّر لِمَن سَبَقَ وأن قَدَّمَ له يد العون في الأيام الصعبة، بل ويبدأ هؤلاء بمحاولة تقديم يد الإحسان إلى مَن سَبَقَ وأن أحسن إليهم.

كانت هذه الفئة معروفةً بين الناس تماماً، حتى أنَّ الجميع يَتجاوَز عن تصرُّفاتهم بسبب وُضوحٍ مُركَّبات النقص التي تحملها صدورهم من أيام الضَّنكِ التي كابدوها.

لكن في عصرنا العجائبيِّ الذي نعيش، لم نعدْ فقط نخشى من تضخُّم ثمن رغيف الخبز، أو من أنظار الطامعين صراحةً في خيراتنا، أو من استنشاق رائحة الصباح دون وضع الكمامة الكريهة.. لكن أيضاً بدأنا نخشى ظهور الأشخاص الذين أمطرت السماء عليهم ذهباً. 

 كان من نتيجة استشراء داء البطالة، والكسل، وانعدام الانتماء، ونوم الضمير أن باع بعض الأشخاص أنفسهم لعصابات الجريمة المُنظَّمة أياً كان نشاطها.

 تلك العصابات التي تَبحثُ دائماً عن صَعَالِيكِ المُجتَمَعَات، وصِغارِ العقولِ، وضِعافِ النفوس، وعَاشِقِيْ الثراء السهل السريع، تستقطبهم العصابات مِن فَورِهَا، تَمنحهم بعضاً من الفتات، وفي مقابل ذلك تضع على ظهورهم أسفاراً من الجرائم والأوزار.

هذه هي جريمة “غسل الأموال”، لكن هذه الجريمة لا تعني “تنظيف” الأموال كما يدلُّ عليه اسمها، بل تعني “إخفاء” مَصدَرِهَا عن السلطات. 

انتشرتْ هذه الجريمة المُبتَكَرَة بالتوازي مع جرائم المافيا الإيطالية، حيث كانت العصابات تَرتَكِبُ أفظَعَ الجرائم في صقلية، ثم تقوم بتحويل الأموال إلى غَاسِلِيهَا في روما، فيتحمَّل هؤلاء المخاطرة، ويذهبون إلى دور المزادات الوهمية التي تُدِيرُهَا نفس العصابات، فيشتري غاسل الأموال لوحةً فاشلةً سخيفةً بثمنٍ خياليٍّ يكونُ مساوياً لصفقة بيع مخدراتٍ أو غيرها من الجرائم، وهكذا ترجع الأموال بهيئة أموالٍ مشروعةٍ إلى حسابات العصابة، فالأموال تكون حينئذٍ من وجهة نظر القانون ثمناً للوحةٍ فنيةٍ!

في الواقع، يَحتاجُ المجرمون دائماً إلى كبشِ فداءٍ لجرائمهم، فيقومون بوضع شخصٍ مستعدٍّ لبيع نفسه في مركز الصدارة، فيَظهرُ هذا الشخص “الغاسل” بمظهر صاحب المال، يتمتَّعُ بهذا المال سواءً أكان منزلاً فاخراً أم شركةً ضخمةً أم منقولاتٍ خيالية الثمن.

 لكن الحقيقة تكون أنَّ هذا الشخص الذي جعل هويَّته مُلكاً ليمين عصابةً إجراميةً، لا يَجرؤُ على بيعِ أي مالٍ ناله من تلك العصابة، فهو يَخشى حتى مجرَّد التفكير بالتصرُّف بهذا المال.

إنَّ كلَّ ما يَقومُ به غاسل الأموال هو التوقيع فقط، فلا علاقةَ له بما يضعه على ظهره من أسفار، بل هو مُجرَّد دميةٍ رخيصةٍ اشتراها المجرمون.

 تتوزَّع صور غسل الأموال في محورَيْن أساسيَّين؛ وهما إمَّا:

أولاً: بقاء الأموال الناتجة عن الجرائم في حيازة غاسل الأموال إلى حين الطلب؛ فيبقى الغاسل يقطن المنزل الفاخر أو يقود سيارة السباق إلى أن يَطلبَ منه المُجرمَ بيعها وتسليمه ثمنها، أو حتى تبقى هذه الأموال في حيازة الغاسل حتى تمضي مدة التقادم عن الجريمة التي كانت مَصدَرَاً للمال، أو

ثانياً: تسديد الغاسل لهذه الأموال كثمنٍ وهميٍّ حتى تعود إلى المجرمين؛ كأن يقوم بشراء ساعاتٍ بأثمانٍ مُبالغٍ فيها من نفس المُجرم الذي منحه المال، وبهذه الطريقة يعود المال للمجرم على أنَّه ثمنٌ للساعات، فيكون لدى المُجرمَ مصدرٌ مشروعٌ للمال.

 وفي الحالتَيْن لا يكون للغاسلِ أية صفةٍ، ولا أية علاقةٍ بالمال، تَجدُ الغاسل يتهرَّب دائماً من فكرة بيع العقار الذي يحوزه أو من فكرة استثمار المال الذي يحفظه؛ ذلك ببساطةٍ لأنَّه ليس صاحب المال، بل إنَّه مجرَّد صورةٍ تُخفي وراءها جرائم بشعةٍ، قد تكون على شكل تجارة المُخدِّرات أو رشاوي الفساد أو حتى التخابر ضدَّ مصلحة الوطن.

يَتَعاطَى المجرمون مع غاسل الأموال بكلِّ استهزاءٍ، يَتَعامَلُونَ معه بطريقةٍ مُذِلَّةٍ، ذلك لأنَّه قد باع نفسه عبداً لهم، فلا يمكنه التخلُّص من وَرطَتِهِ التي أوقع نفسه فيها، وإلاَّ أبلَغَ المجرمون أنفسهم السلطات عنه، حيث سيجد نفسه دون مصدرٍ مشروعٍ للأموال. 

 ولذلك يكون غاسل الأموال بين فكَّي وحشٍ مُفترسٍ، لا رحمةً لديه، ولا تَردُّدٍ عنده ليتخلَّص منه إذا بدأت الإشاعات تدور حوله قبل انتهاء عملية غسل الأموال، أو إذا انتهت هذه العملية بنجاح. 

 عندها سيُطلقون على غاسل الأموال رصاصة الرحمة، فهو قد عاش ذليلاً بلا معنى، وقُتل بعد أن قدَّم أهمَّ خدمةٍ للمجرمين في مقابل ثمنٍ بخسٍ. 

 لذلك، يجب علينا ألاَّ نستغرب كيف يَتَعامَل مُحدَثُو النعمة بتعالٍ مع الناس الشرفاء، وكيف يحاولون إرضاخَهُم.

إنَّ غاسل الأموال يعضُّ على أنامله من الغيظ، يُحاولُ تَفرِيغَ شُحنات المهانة والعبودية الآتية من أسياده المجرمين، ولكن هيهات.. فللشريف ربُّه الذي كان حقَّاً عليه أن يَرزُقَهُ، وللغاسلِ الخُسرانُ المُبينُ.


قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار