• logo ads 2

د.همام القوصى يكتب.. “شتاء ٢٠٢٣.. معركة أسعار الطاقة”

alx adv

لم يَمتَلِكْ شتاءٌ آخر كشتاءِ 2023 مثل هذه الشهرة والترقُّب والوعيد، فالقوى المُتَصَارِعَة على الجبهات الأوكرانية بدأت تمارس كافَّة حقوقها المتاحة حتى تَفرِضَ نفوذِهَا، وتُخضِعَ الأطراف المُتَصَارِعَة معها. فالجانب الروسي يَرَى أنَّ من حقِّه بعد اليوم أنْ يَفرِضَ السعر الذي يُريد، وعملة الدفع الوطنية على المستهلِكِين غير الأصدقاء من ماكينات الصناعة الألمانية والأوروبية؛ وهو ما سينعكس مباشرةً على موقد التدفئة وفاتورة الكهرباء في كلِّ منزل أوروبي لا محالة.

أمَّا الجانب الأوروبي فيرى أنَّ الموقف الروسي سيؤدِّي إلى أزمةٍ غير مسبوقةٍ لديه قد تَصِلُ إلى تَوَقُّفِ عجلة الإنتاج، وعدم وجود وسائلٍ للتدفئة في شتاء 2023، وحتى قَطْعِ الكهرباء عن المدن. في ظلِّ هذا النزاع الذي خَرَجَ من تحت رماد السنين بين روسيا وأوروبا الغربية، بدأتْ مصالح أقصى الغرب تتأثَّر، وهي مصالح الولايات المتحدة. والقارئ للتاريخ يَعرِفُ أنَّ الإدارات الأمريكية التي أدَارَتْ دفَّة القيادة في هذه الدولة خلال الحروب العالمية أو النزاعات الدولية الواسعة، لا تتدخَّل مباشرةً في النزاع -وإن كانت هي من أشعَلَتْهُ بالخفاء-، بل تُقدِّمُ الدعم بكافَّة أشكالِهِ للطرف الذي يَخدِمُ مصلَحَتِهَا، ثم تتدخَّل على الأرض بعد أن تكون المعركة شبه مُنتَهِيَةٍ. لكن تبدو الأزمة الأوكرانية استثناءً عن هذه الاستراتيجية الأمريكية في إدارة الصراعات بالقوة الناعمة عن بُعد، فالمشكلة هي أنَّ اقتصاد الولايات المتحدة يتأثَّر بشكلٍ مباشرٍ وعميقٍ بتغيُّر أسعار الطاقة بمجرَّد خفض الإنتاج وارتفاع أسعار النفط والغاز؛ لأنَّها مازالتْ سلعاً مُستورَدَةً في السوق الأمريكية. وهكذا، لن تَستطيعَ الولايات المتحدة الانتظار حتى يبدو لها ملامح نهاية الأزمة الأوكرانية، بل عليها أن تتدخَّل بسرعة قبل أن يَزدَادَ الدين السيادي الأمريكي الذي يَصِلُ حالياً إلى تريليونات الدولارات. كما أنَّ الإدارة الأمريكية الحالية قد سَمَحَت بالسحب من الاحتياطي الفيدرالي الاستراتيجي للنفط، وهو احتياطيٌّ مُخصَّصٌ للكوارث والحروب وليس لمثل الظروف الحالية؛ الأمر الذي يُشِيرُ إلى عُمقِ وتَسَارُعِ أزمة الطاقة في الولايات المتحدة.

وفي ظلِّ حالة ترقُّبٍ أشبه بالشماتة من أصحاب ثروات الطاقة تِجَاه الأطراف التي تَحتَاجُهَا، فقد بدا ظاهراً فتور العلاقة بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة تجاه دول منظمة أوبك+ العالمية؛ التي يجتمع فيها مُنتِجِي النفط من جميع أنحاء العالم حتى يُقرِّروا عدة أمورٍ خدمةً لمصالِحِهِم أهمُّها كمية الإنتاج.

 

فعلى الرغم من النفوذ الأمريكي التقليدي الذي كانت تَفرِضُهُ الولايات المتحدة على بعض قرارات منظمة أوبك+، فإنَّ ظهور النفوذ الروسي كقوةٍ عظمى أمام النفوذ الأمريكي قد شجَّع دول المنظمة على تَجَاهُل المصالح الأمريكية أخيراً. حيث إنَّ ثروة النفط والغاز مهما طال الزمن بها هي ثروةٌ ناضبةٌ لا محالة، ويحقُّ للدول المُنتِجَة أن تَحصَلَ على أكبر قدرٍ ممكنٍ من القيمة لثرواتها، وهو ما يُزعِجُ بطبيعة الحال الدول المُستَهلِكَة وأوَّلُهَا الولايات المتحدة. ففي يوم 5 أكتوبر 2022، فيما يرقد الغرب على أعتاب شتاءٍ مخيفٍ، وفي وقت حسَّاس جداً من الأزمة الأوكرانية التي باتت على شفير حربٍ واسعةٍ، اتَّخذت منظمة أوبك+ قراراً بخفض إنتاج النفط بمعدل (2) مليون برميل يومياً؛ وهو ما سيؤدِّي -بلا شكٍّ- إلى ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستوياتٍ خياليةٍ. مثل هذه الظروف السلبية القاتمة على الاقتصاديات الأوروبية الداعمة بشكلٍ مباشرٍ للطرف الأوكراني، ستؤدِّي إلى آثار كارثية على مركز هذه الدول المالي، وناتجها القومي الإجمالي، وقدرتها على الصمود في شتاء 2023.

 

أمَّا الولايات المتحدة فاللُّعبة لديها أخطر من حيث النتائج، حيث إنَّ حلول شتاءٍ قاسٍ هو أمرٌ لم يعهدْه المواطن الأمريكي، الذي قد لن يُصوِّتَ مُجدَّداً للإدارة الحالية في انتخابات الكونغرس القادمة إذا زادت تكلفة المعيشة عليه، وقد تخسر هذه الإدارة أيضاً انتخابات الرئاسة القادمة في 2024، كل ذلك بسبب الشتاء القادم. هذه الظروف القاسية التي تواجه المعسكر الأوروبي والأمريكي، دفعتْ دول هذا القطب الاقتصادي الهائل إلى طلب وضع سقفٍ لأسعار النفط والغاز. وفي الحقيقة، هذا السقف لا يمتُّ لاقتصاد السوق بصلةٍ؛ لأنَّه يتدخَّل بقوى العرض والطلب، وهي مسألةٌ غير مقبولةٍ في الاقتصاديات الحرة الأوروبية، لكنَّ هذه الدول التي تُنَظِّرُ على الورق، سَمَحت لنفسها -في الواقع- باقتراح هذا السقف، فقط لأنَّه يَخدِمُ مصلَحَتِهَا، ويُنقِذُهَا من صقيعٍ قادمٍ لا محالة.

 

نستطيع القول بأنَّ الأزمة الأوكرانية أظهرتْ النتائج التالية على صعيد سوق الطاقة: • سوق الطاقة هو ملك لمُنتِجِيهَا، وليس لمُستَهلِكِيهَا. • سقف الأسعار هو اقتراحٌ غير منطقيٍّ في اقتصاد السوق. • تعدُّد أقطاب القوى الدولية العظمى يَنعَكِسُ إيجاباً على حرية سوق الطاقة من حيث الإنتاج والتسعير. • الاقتصاد الذي يَقُومُ على الصناعة يجب أن يَضْمَنَ مَورِّداً صديقاً للطاقة، أو أن يَستَبدِلَ مُورِّد الطاقة غير الصديق جذرياً. • الدولة التي تَغرَقُ في الكماليات لن يستطيعَ شعبُهَا تحمُّل الأزمات. • الشتاء يُمثِّلُ ظرفاً جوياً وزمنياً مؤقَّتاً وعابِرَاً، إلاَّ أنَّه كان ظرفاً حاسماً للعديد من الحروب، خاصَّةً تلك التي نَشَبَت بين دولٍ ذات طقس معتدلٍ أو دافئٍ وبين دول مُتمرِّسةٍ على درجات الحرارة المُنخَفِضَة تحت الصفر.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار