• logo ads 2

الزلازل.. هَل مِن مسؤولية قانونية؟

بقلم الدكتور همام القوصى

alx adv
استمع للمقال

في تَمامِ الساعة 4.17 صباحاً من يوم 6 فبراير 2023 في مدينة حلب، كنتُ نائِماً في أمان الله، وإذْ بأثاث الغرفة يَتَحَرَّك بعُنفٍ جِيئةً وذهاباً وكأنَّ البناء يَنزَلِقُ، ثم سَمِعتُ أصوات تكسُّر الصخور، وتَعَالَت بعدها صرخات الجيران.

اعلان البريد 19نوفمبر

بعد مرور ثوانٍ، بدأ الناس بالنزول من شُقَقِهِم مَفزوعِينَ من شدَّة الصدمة، لكن للأسف بدأت حجارة بعض الأبنية بالتساقط على مَدَاخِلِهَا؛ الأمر الذي جَعَلَ من مسألة الهروب من البناء أكثرُ خطورةً من البقاء فيه.

استمرَّت هذه الصدمة بضعة ثوانٍ فقط، وما لَبِثَت الأرض تَسكُنُ، حتى بدأت الهزَّة التالية التي كانت تُقَارِبُ الزلزال من حيث القوَّة، ومن ثم الهزَّات الارتدادية العنيفة التي جَعَلَت البناء يَمِيلُ بمرونةٍ مُخيفةٍ.

 

لله الحمد، لم تَتَضَرَّرْ العديد من الأبنية، لكن للأسف يوجد الكثير من الأبنية الأخرى التي تَضَرَّرَت، أو حتى وَقَعَت على أصحابها وهم نيام.

هو قدر الله، لا شكَّ في ذلك ولا ريب، فلا يمكن أن يَسقُطَ على الأرض من حبَّةٍ إلاَّ بإذن الله.

 

لكن بمقدرات الإنسان، وانطِلَاقاً من صوت الضمير الإنساني، نتساءل:

 

هل يمكن أن يكون لبعض الدول دورٌ في حدوث الزلزال؟

 

وهي يمكن إقامة المسؤولية عن آثار الزلازل المُدَمِّرة بعد حدوثِهَا؟

 

أولاً: المسؤولية الدولية عن الاصطناع المباشر للزلازل (نظرية المؤامرة)

بالنسبة لفكرة اصطناع الزلازل بشكلٍ مباشرٍ استناداً على نظرية المؤامرة، فهي مسألةٌ باتَت مَحَلاًّ للمبالغة والاستغلال من مُحبِّي الشهرة، لكن القدرات العلمية الإنسانية الحالية المعروفة لا يمكن أن تَصِلَ إلى فكرة إحداثِ زلزالٍ يَحتَاجُ إلى طاقةٍ تتجاوز قدرَتُهَا 500 قنبلة ذرية مثل زلزال 2023.

بالمقابل، فإنَّ وجود أية إمكانياتٍ وتجاربٍ سريةٍ في هذا المجال يَعنِي أنَّ إدارة الدولة التي تَقُومُ بمِثلِ هذه التجارب على أشخاصٍ أبرياء، هي إدارةٌ تستحقُّ المساءلة وفقاً للقانوني الدولي، وهو بحثٌ شائكٌ، فيه من السياسة أكثر من القانون.

 

 

ثانياً: المسؤولية الدولية عن التسبُّب غير المباشر بالزلازل

وهي المسألة الواقعية التي تَحتَاجُ إلى دراسةٍ علميةٍ دقيقةٍ لمعرفة عوامل حدوث الزلازل، وما إذا كانت تصرُّفات إحدى إدارات الدول قد تسبَّبت بحدوث الزلازل بشكلٍ غير مباشرٍ نتيجة الإهمال أو اللامبالاة.

فعلى سبيل المثال، طُرِحَت في زلزال 2023 فكرة أن تكون السدود التركية الكبيرة المُقَامَة على مَنَابِعِ نهرَيْ الفرات ودجلة هي التي وَضَعَت وزناً هائلاً من المياه المُجمَّعَة في بحيرات السدود؛ ممَّا أدَّى إلى الضغط على صدوع الصفيحة الأرضية، وهذا كان سبباً في الزلزال.

 

هذه الفرضية -إن ثَبَتَتْ علمياً بشكلٍ قاطعٍ من أهل الاختصاص- فإنَّ المسؤولية عن إقامة السدود والتسبُّب بالزلازل ستكون عناصرها كالتالي:

الخطأ؛ وهو إقامة السد وحجز المياه فوق صدعٍ أرضيٍّ تسبّب بوزنٍ هائلٍ على هذه الصدوع؛ ممَّا أدَّى إلى انزلاقِهَا واصطدامِهَا ثم حدوث الزلزال، كلُّ ذلك دون دراسةٍ كافيةٍ لهذه المخاطر من جهةٍ، ودون تنسيقٍ مع دول الجوار، والتي هي دول المصب لنهرَيْ الفرات ودجلة من جهةٍ أخرى.

الضرر؛ وهي جميع الأضرار المباشرة في الأرواح والإصابات البشرية، والأضرار في الأبنية والبُنَى التحتية.

 

العلاقة السببية؛ وهي الإشكالية القانونية الكبرى هنا، حيث يجب إثبات الرابط بين الخطأ (بناء السد، وحجز المياه على الصدوع الأرضية)، وبين أضرار الزلزال (في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية)؛ والمشكلة أنَّ عوامِلاً أخرى مُتَدَاخِلَةٍ قد تكون سبباً مُشتَرَكَاً مع السدود في حدوث الزلازل؛ مثل قوَّة الأبنية، ومعايير الأساسات الهندسية، وغيرها.

 

لكن بالمُجمل، فإن بناء السد فوق الصدع الأرضي قد يُمثِّلُ النسبة الأكبر في التسبُّب بالزلزال، ذلك بعد إثبات الأمر بخبرةٍ علميةٍ تكشف على السدود والبحيرات على أرض الواقع.

 

ثالثاً: المسؤولية المدنية عن زيادة أضرار الزلزال

 

إذا حَدَثَ الزلزال دون أية مساهمةٍ بشريةٍ في التسبُّب به بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، فهنا يمكن أن تنشأ مسؤوليةٌ مدنيةٌ على الأشخاص الذين تسبُّبوا بزيادة الأضرار الكارثية للزلزال، حيث يتم إلزام هؤلاء بتعويض المضرورين.

 

فعلى سبيل المثال، يمكن أن يقوم متعهِّد البناء بتأسيس مجموعة من الأبنية على أساساتٍ غير متينةٍ بما يُخَالِف أصول البناء ويُخَالِفُ تصميم المهندس؛ حيث يجب على هذا المتعهِّد تدعيم الأساسات بمجموعةٍ من الصلب حتى يتحمَّل درجةً معينةً من الاهتزازات، لكنَّه قد يَضَعُ حديداً مغشوشاً في الأساسات أو يُقلِّل نسبة الإسمنت أو يَضَعُ أنواعاً رديئةً فيها، وغيرها من الممارسات التي تَرقَى إلى مستوى الأفعال الإجرامية وفق الوصف الإجرامي المذكور في قانون الجزاء لكلِّ دولةٍ على حدة.

 

ففي مثل هذه الحالات، يمكن إقامة المسؤولية المدنية على كلٍّ ممَّا يلي:

المهندس؛ الذي صمَّم البناء بالمُخَالَفَةِ للأصول.

 

المتعهِّد؛ الذي نفَّذَ تصميم المهندس مع أنَّ عيوب التصميم كانت ظاهرةً أمامه، أو قام بمُخَالَفَة التصميم ونفَّذ البناء بشكلٍ خاطئٍ.

موظَّفو البلدية؛ الذين أهملوا بواجبهم الكشف على الأبنية المُخَالِفَة، أو قاموا بتمرير كشوفهم بشكلٍ صوريٍّ بعد تلقِّيهم رشوةٍ من المتعهِّد، أو لقاء مصالحٍ غير مشروعةٍ مُتَبَادَلَةٍ.

 

حارس البناء؛ الذي استَلَم البناء من المتعهِّد، وانتَقَلَت إليه مسؤولية صيانَتِهِ مثل المَالِك أو الحارس المُوَكَّل بمهمَّة الحراسة.

 

 

وهكذا، تكون أركان المسؤولية المدنية عن أضرار الزلزال على الشكل التالي:

 

الخطأ؛ تشييد البناء بأساساتٍ أضعف من المواصفات المذكورة على المستندات، وبشكٍل مُخالِفٍ الأصول الهندسية المفروضة أو الإهمال بصيانة البناء.

 

وهنا تقوم المسؤولية على المهندس الذي صمَّم إذا كان تصميمه خاطئاً أو على المتعهِّد الذي نفَّذ التصميم إذا كان تنفيذه خاطئاً أو كان الخطأ في التصميم ظاهراً؛ ويكون المتعهِّد الأصيل مسؤولاً عن المتعهِّدين من الباطن مسؤولية المتبوع عن أعمال التابع.

 

أما إذا تمَّ تسليم البناء سليماً، وكان سبب حدوث التهدُّم هو النقص في الصيانة، فهنا تكون المسؤولية على حارس البناء الذي يكون هو المالك أساساً أو من يَتَعَاقَد معه لتطبيق مهمَّة الحراسة.

 

وفي الواقع التشريعي، فإنَّ معظم القوانين المدنية تَفتَرِضُ الخطأ في جانب المهندس والمتعهِّد عن الأضرار التي تَظهَرُ بسبب عيوب البناء لمدة تَصِلُ إلى 10 سنوات، دون حاجة لإثبات هذا الخطأ؛ فيكفي إثبات العيب، ولا يمكن للمتعهِّد نفي هذا الافتراض إلاَّ عبر نقل المسؤولية عبر إثبات الخطأ المَخفِيِّ للمهندس في التصميم أو خطأ حارس البناء بعد استلامه حيازته -وهي أخطاءٌ عليها قرينة الخطأ المفترض أيضاً-، أو إثبات أنَّ الزلزال كان قوةً قاهرةً ستُدَمِّرُ البناء حتى وإن كان سليماً.

 

 

الضرر؛ جميع الأضرار الإنسانية أو المالية للأضرار التي حَدَثَت للبناء، سواءً أكانت مُجرَّد تشقُّقات في الجدران أم انهياره بالكامل.

 

العلاقة السببية؛ وهي الرابط بين الخطأ (البناء غير المطابق للمواصفات)، وبين الأضرار (أضرار التهدُّم أو الانهيار)، حيث تكون المسؤولية محصورةً في التعويض عن الأضرار التي تسبَّبت بها عيوب البناء، دون الأضرار التي كانت ستَحدُث حتى وإن كان البناء مُشيَّدَاً وفق الأصول.

 

وتقوم القرينة على أنَّ عيوب البناء هي السبب بالأضرار التي تسبَّب بها الزلزال أو هي التي سَاهَمَت بفَدَاحَةِ الأضرار، ذلك حتى يُثبِت المتعهَّد بأنَّ الزلزال كان من القوة بحيث كان البناء سيتضرَّر حتى وإن كان البناء مُرَاعِياً للمواصفات؛ وهنا يكون الزلزال قوةً قاهرةً تُعفِي من المسؤولية.

 

وعلى الرغم من قيام حالة القوة القاهرة، يكون المهندس أو المتعهِّد مسؤولاً تأديبياً أمام نقابته، وجزائياً عن الفعل الإجرامي -في حال وجود وصف في قانون الجزاء- المُتَمِثِّل بمخالفة أصول البناء بحدِّ ذاتِهَا بغضِّ النظر عن النتائج، لكن لن تقوم المسؤولية المدنية عن الأضرار التي لم تكنْ بسبب عيوب البناء؛ لأنَّها كانت على سبيل القوة القاهرة.

 

وفي الواقع، بعد حدوث الزلزال، قد تنشأ العديد من المسؤوليات القانونية عن التقاعُس في إنقاذ العَالِقِين تحت الأنقاض أو المصابين، أو التعامُل مع الأضرار التي تُسبِّبُهَا الأبنية الآيلة للسقوط، أو الأضرار التي تُصِيبُ الناس الذين فَقَدُوا منازِلَهُم، وغيرها الكثير من الآلام النفسية والمادية الهائلة.

 

الحقيقية، أنَّ الزلزال هو كارثةٌ إنسانيةٌ بكلِّ ما للكلمة من معنى، وحتى تتجاوَزُ الدولة هذا الظرف العصيب، تَستَطِيعُ تشكيلَ خلية أزمةٍ تضمُّ قيادات الشرطة، والحماية المدنية، والصحَّة، والبلديات، إضافةً إلى الجمعيات الخيرية؛ كلُّ ذلك في محاولةٍ لتضميد الجراح، وتخفيف المعاناة عن الجيل الذي عَايَشَ الكارثة، وحتى لا تَبقَى هذه الكارثة صدمةً وجرحاً في وجدان الأجيال القادمة.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار