• logo ads 2

“اقتصاد السراب.. تمهيداً للاقتصاد الدولي مُتَعَدِّد الأقطاب”

د. همام القوصى يكتب..

alx adv
استمع للمقال
يَتَعَامَلُ خبراءُ الاقتصاد والأعمال بالمؤشِّرات التي يُحوِّلُونَهَا إلى توقُّعَاتٍ، وتَتَرَاوَحُ هذه التوقُّعاتِ بين الاحتِمَالِ القريب وبين المَصِيرِ شِبهِ المَحتُومِ. وعلى هذا، يتمُّ تدريس مواد الاقتصاد، حتى يتمَّ تحديد المؤشِّرات القَابِلَةِ للترجمة؛ أي تَرجَمَتِهَا لأحداثٍ اقتصاديةٍ إيجابيةٍ أو سلبيةٍ مستقبليةٍ. لكن في يَومِنَا هذا، يبدو لي أنَّ الأمر قد تَغَيَّرَ، وأنَّ المؤشِّرات التقليدية قد انهارتْ تماماً. والدليل أنَّ المُتَابِعَ لقنوات التحليل الاقتصادي أصبَحَ يَعرِفُ أنَّها بدأت تَهذِي منذ عام 2019؛ حيث نرى المُذِيعَ الاقتصاديَّ تَائِهٌ في أسئِلَتِهِ، فيما يموج الخبير بِأَجوِبَتِهِ يُمنَةً ويُسرَةً وكأنَّهُ فَاقِدٌ للبُوصَلَةِ تماماً. وأصبَحنَا نَسمَعُ من خبراء الاقتصاد جملةً غريبةً، هي: “كلُّ شيءٍ ممكنٍ”، وكأنَّنا لا نعرف ذلك! فالمهم أن نَسمَعَ الرأي الاقتصادي الخبير والتوقُّع القريب، وليس الاستِسلَام للاحتمالات المجهولة. ومن هنا، فقد بَدَى واضِحَاً أنَّ جائحة كورونا قد أخَلَّت بتوازن الفكر الاقتصادي، وما زَادَ الاختلالَ عُمقَاً هو الانفجار في نموِّ القطاع التكنولوجي من حيث التواصُلِ والتعامل؛ حتى باتَتْ التعاملات المالية الافتراضية جُزءاً من حياتِنَا بعد انتهاء الجائحة. ولم تَعُدْ العملات المُشَفَّرة جزءاً من منظومةٍ افتراضيةٍ موازيةٍ فقط، بل أصبحت قِطَاعَاً قائِمَاً بِذَاتِهِ رغم كلِّ التحديات القانونية المُرَافِقَةِ لها. وبعد هذه الصدمات الاقتصادية التكنولوجية، جاءت الأزمة الأوكرانية عام 2022 حتى تبدأ أزمةٌ اقتصاديةٌ تمسُّ الاقتصاد الحقيقي في قطاع الغذاء، الذي حَمَلَ معه غلاءً مباشراً بالأسعار.

 

وبعدها، بدأ التضخم بالاقتصاد العالمي يَنتَشِرُ بشكلٍ مُخِيفٍ؛ وبدلاً من مُوَاجَهَتِهِ بالتعاون والإنتاج وتسهيل الاستثمار ورفع القيود وإنشاء المناطق الاقتصادية، قامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الأوروبية برَفعِ أسعار الفائدة حتى تَسحَبَ البنوك السيولة عن طريق زيادة الودائع، وهكذا يَقِلُّ طلب السلع، أمَلَاً بدَفعِ الأسعار نحو الانخفاض، ثم كَبحِ جِمَاحِ التضخُّم. لكن هذه السياسة المالية-النقدية تُعتَبَرُ سياسةً تقليديةً مكشوفةً في السوق، فالشركات التجارية المُهَيمِنَةِ أصبحتْ تَنتَظِرُ زمَنَاً قليلاً بعد خَبَرِ رَفعِ أسعار الفائدة؛ حتى يَنتِهِي أثَرُ الخبر في الأسواق، وبَعدَهَا تُعَاوِدُ رَفْعَ الأسعار، ويبدأ التضخُّم بالارتفاع من جديد. والسبب في هذا التوجُّه التقليدي المشلول، هو عدم رغبة الاقتصاد الأمريكي بالانفتاح على المستوى العالمي، بل استعمَلَت الولايات المتحدة سلاح العقوبات الاقتصادية؛ حتى تَحرِمَ مُنَافِسِيهَا التجاريِّين وخُصُومِهَا السياسيِّين من فوائد التعاملات مع الاقتصاد الأمريكي وحَدِيقَتِهِ الأوروبية.
فالمسألة إذاً ليست فقط عقوبات على روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، حتى أنَّ الولايات المتحدة لا تَنظُرُ إلى الاقتصاد الروسي بأنَّه منافسٌ حقيقيٌّ، بل هذه النظرة تَتَوجَّه بالأساس نحو الصين. المسألة ببساطة أشبه بحروب القرون الوسطى؛ من حيث الحصار والتجويع واستغلال الجوع كسلاح ناعم؛ هذا هو المنهج الاقتصادي الأمريكي. فالخوف الأمريكي ليس من القوة الدفاعية، والمخاطر العسكرية الجسيمة التي تُشَكِّلُهَا روسيا، بل الخوف الأساسي من اتِّساع الاقتصاد الصيني الذي سيؤدِّي مع الوقت إلى ابتلاع العرض والطلب الأمريكي، ثم السيطرة على منابِع السيولة في الولايات المتحدة؛ وبعدها قد يُصبِحُ الاقتصاد الصيني سِلَاحَاً أخطر من الطائرات والدبابات. فالولايات المتحدة بدأت بإشعَالِ الأزمة الأوكرانية على شكل ضربةٍ أوليةٍ استباقيةٍ للاقتصاد الشرقي الصيني-الروسي؛ تماماً مِثلَمَا كان المنهج الأمريكي المعروف بالحروب الاستباقية. واليوم نَرَى أنّ نتيجة العقوبات والسياسة الحمائية الأمريكية ضدَّ المنافسين التي بدأتْ في عهد الإدارة السابقة، وتَستَمِرُّ بشكلٍ صامتٍ في عهد الإدارة الحالية؛ نرى أنَّها تُؤتِي بثمارٍ عكسيةٍ تماماً. فمَن ذَا الذي كان يتوقَّع أن تُفكِّرَ الولايات المتحدة بعدم سداد ديونها عام 2023، فمُنذُ وقتٍ قريبٍ كانت السندات الأمريكية أقوى أنواع الاستثمار، كونه دينٌ شِبهُ مضمونٍ من حيث الوفاء؛ حتى كانت فوائد هذه السندات قليلة لأنَّ مخاطرها ضعيفة جداً ولا تَكاَدُ تُذكَرُ.
كل هذا أصبح من الماضي؛ فلولا اتِّفَاقُ الإدارة الأمريكية الحالية مع المعارضة الأمريكية التي تُسَيطُرُ على مجلس الشيوخ، لكانت الولايات المتحدة ستَفشَلُ لأول مرة بالتاريخ في سداد ديونها السيادية.
وهذا مُؤشِّرٌ خطيرٌ، ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على الاقتصاد الدولي كَامِلَاً، وبشكلٍ أساسيٍّ على الدول التي ما زالت في حالةٍ من الوصاية المالية الأمريكية. لذا، لم نَعُدْ نستَغرِبُ إيقاف العديد من الدول الصناعية لتعاملها بالدولار الأمريكي، واستبداله بعُملَاتِهَا الوطنية لتقاضي أثمان البضائع المُصدَّرَةِ منها، وعلى هذا النهج سارت أيضاً بعض الدول النفطية.

 

وهذا مؤشر أكثر خطورة.. فمن ذا الذي كان يَتَصَوَّرُ أنَّ تخسر الدول الصناعية والنفطية مَخزونَهَا النقدي من الدولار طواعيةً.. ألا يَدُلُّ هذا على انهيار أهمِّ أركان العلوم الاقتصادية القديمة؟ فلماذا ما نَزَالُ نرى المُحلِّلين الاقتصاديِّين يَدُورُونَ في ذات الفَلَكِ المَحدُودِ، والفِكرِ المُغلَقِ، والاستشراف الفاشل؟ السبب ببساطةٍ أنَّ أجيال الاقتصاديِّين الحاليِّين دَرَسُوا الاقتصاد من مناهجٍ قد تَقَادَمَتْ قِيمَتُهَا العلمية تماماً منذ 2019، ولم يعدْ للمادة العلمية التي يَشتَغِلُ عليها هؤلاء أيُّ معنى أو أثرٍ على للمستقبل. حتى أصبَحَ المرءُ يَتَسَاءَلُ عن جدوى برامج القنوات الاقتصادية.

 

 

فنحن نعيشُ اليوم مرحلةً انتقاليةً بين عصر اقتصادي إلى عصر آخر مختلف جذرياً. والمسألة لم تكنْ مفاجأةً، فمنذ عام 2016 ونحن نَتَحدَّثُ عن الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا سلسلة الكتل، لكنَّ معظم الخبراء الاقتصاديِّين أصمُّوا آذانَهُم عن الواقع.

 

 

نعيشُ اليوم بحالةٍ من الضبابيَّة الشديدة، لأنَّ المؤشِّرات الاقتصادية الفعلية للعصر الاقتصادي القادم لم تتَّضِحْ بَعدُ. فلم يَعُدْ لسعر الدولار الأمريكي ذات الدلالة على حركة الاقتصاد الدولي، ولم يَعُدْ التضخُّم مُؤشِّراً مُفِيدَاً في ظلِّ الكيدية المالية بالعقوبات الاقتصادية، ولم تَعُدْ أسعار الفائدة تُشِيرُ إلى أيِّ معنى مالي في ظلِّ الرفع المُتَتَالِي لأسعار الفائدة. نحن في دوامةٍ اقتصاديةٍ حقيقيةٍ، واقتصادٍ مرئيٍّ غير حقيقيٍّ.. نحن في مرحلةٍ غير مُتَبَلوِرَةٍ من المراحل الاقتصادية.. فهل نحن في حالة تباطؤٍ تَسبِقُ انكماشاً يُمهِّدُ لأزمةٍ كبرى؟ أم نحن في مرحلة تَعَافٍ تَتلُو مناخ الجائحة، وتَسبِقُ انتِعَاشَاً واسِعَاً يَجِدُ مُؤشِّرَاتَهُ في ارتفاع النموِّ الصيني؟ فلا يمكن الاكتفاء بالأزمة الأوكرانية إذا كنَّا بصدد تحليل الاقتصاد الدولي؛ لأنَّ الحروب الواسِعَة تُؤثِّرُ في البيئة المحيطة بها وقد يَمتَدُّ تأثيرها خارج الحدود، لكن هذا لا يَقطَعُ بحدوث أزمةٍ. حتى الحرب العالمية الثانية، التي دمَّرت الاقتصاد الأوروبي، فقد كانت الولايات المتحدة مُستَفِيدَةً من اقتصاد الحرب.

 

 

 

فإذاً لا يُوجَدُ مؤشرٌ حقيقيٌّ قادرٌ على تفسير الصورة الاقتصادية المُتَشَكِّلَةِ مع حلول منتصف عام 2023 سوى أنَّنا نعيش ظروفاً اقتصاديةً غيرَ مسبوقةٍ. وعليه، فنَحنُ نَعِيشُ اقتصاد السراب؛ ذلك الذي لا هويةً واضِحَةً له، ولا مُستَقبَلاً مَنطِقِياً ينتظرهُ.

 

 

 

فإذا استمرَّت الأزمة الأوكرانية، فإنَّ الرابح سيكون مجموعة بريكس التي تضمُّ العِملَاقَيْن الروسي والصيني؛ لأنَّ الثقة بالدولار الأمريكي -يرافقه اليورو بالطبع- تنهارُ كعملةٍ مِعيَارِيَّةٍ مع استمرار الأزمة. أمَّا إذا حلَّ السلام في سهول القمح الأوكرانية، وعادَ الأمريكيُّون والأوروبيُّون إلى رُشدِهِم بعدَ إنفاقِهِم غير المنطقيِّ على الحرب، عندها يمكن أن يَرجِعَ التفاؤل إلى البيئة الأوروبية.

 

 

بينما إذا استمرَّتْ الأوضاع بالتصعيد -وهو ما يبدو عليه الأمر حتى الآن- فإنَّ السراب الاقتصادي الذي نعيشْ اليوم سيَنقَشِعُ بشكلٍ مُغَايِرٍ تماماً. وسيَتَبَدَّى اقتصادٌ دوليٌّ منقسمٌ إلى أقطابٍ، أشبَهُ ما يكون باقتصاد زمن الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.

 

 

لكن الفرق هذه المرَّة هي أنَّ الاقتصاد السوفييتي كان يعيش إيديولوجيا الدعم الاجتماعي وإمساك الدولة بالسوق، أمَّا روسيا الاتحادية اليوم فهي ذاتُ اقتصادٍ مُنفَتِحٍ وعقليةٍ تجاريةٍ مغريةٍ للاستثمار الخاص. أي أنَّ انقسام الاقتصاد الدولي -كمصيرٍ شبه محتومٍ للأزمة الأوكرانية- سيَجعَلُ من العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا جِسرَاً لعبور الاقتصاديات الشرقية الناشِئَةِ من مرحلة النموِّ والمنافسة، إلى آفاق التطوُّر المُتَسَارِعِ والريادة. وهذا لا يَعنِي أنَّ المكسب سيكون في خانة الاقتصاد الصيني والروسي إلى درجة الصدارة، بل إلى مرحلة الاقتصاد الدولي مُتَعدِّد الأقطَاب.

 

 

أي الاقتصاد الذي نَرَى فيه أبواباً مُستَقِلَّةً عن بعضها بعضاً؛ من بداية المواد الأولية والتصنيع، إلى الإنتاج والبيع والتوزيع. أمَّا الرابح الأكبر من تَعَدُّد الأقطاب الاقتصادية سيكون هو الاقتصاد القادِرِ على جَذبِ أكبرِ قَدرٍ مُمِكنٍ من الطرق التجارية ولوجستيات الأعمال، إلى أن تُصبِحَ سلاسل الإمداد العالمية تمرُّ من هذا الاقتصاد على اختلافِ أقطابِهَا.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار