وهذا مُؤشِّرٌ خطيرٌ، ليس على الولايات المتحدة فحسب، بل على الاقتصاد الدولي كَامِلَاً، وبشكلٍ أساسيٍّ على الدول التي ما زالت في حالةٍ من الوصاية المالية الأمريكية. لذا، لم نَعُدْ نستَغرِبُ إيقاف العديد من الدول الصناعية لتعاملها بالدولار الأمريكي، واستبداله بعُملَاتِهَا الوطنية لتقاضي أثمان البضائع المُصدَّرَةِ منها، وعلى هذا النهج سارت أيضاً بعض الدول النفطية.
وهذا مؤشر أكثر خطورة.. فمن ذا الذي كان يَتَصَوَّرُ أنَّ تخسر الدول الصناعية والنفطية مَخزونَهَا النقدي من الدولار طواعيةً.. ألا يَدُلُّ هذا على انهيار أهمِّ أركان العلوم الاقتصادية القديمة؟ فلماذا ما نَزَالُ نرى المُحلِّلين الاقتصاديِّين يَدُورُونَ في ذات الفَلَكِ المَحدُودِ، والفِكرِ المُغلَقِ، والاستشراف الفاشل؟ السبب ببساطةٍ أنَّ أجيال الاقتصاديِّين الحاليِّين دَرَسُوا الاقتصاد من مناهجٍ قد تَقَادَمَتْ قِيمَتُهَا العلمية تماماً منذ 2019، ولم يعدْ للمادة العلمية التي يَشتَغِلُ عليها هؤلاء أيُّ معنى أو أثرٍ على للمستقبل. حتى أصبَحَ المرءُ يَتَسَاءَلُ عن جدوى برامج القنوات الاقتصادية.
فنحن نعيشُ اليوم مرحلةً انتقاليةً بين عصر اقتصادي إلى عصر آخر مختلف جذرياً. والمسألة لم تكنْ مفاجأةً، فمنذ عام 2016 ونحن نَتَحدَّثُ عن الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا سلسلة الكتل، لكنَّ معظم الخبراء الاقتصاديِّين أصمُّوا آذانَهُم عن الواقع.
نعيشُ اليوم بحالةٍ من الضبابيَّة الشديدة، لأنَّ المؤشِّرات الاقتصادية الفعلية للعصر الاقتصادي القادم لم تتَّضِحْ بَعدُ. فلم يَعُدْ لسعر الدولار الأمريكي ذات الدلالة على حركة الاقتصاد الدولي، ولم يَعُدْ التضخُّم مُؤشِّراً مُفِيدَاً في ظلِّ الكيدية المالية بالعقوبات الاقتصادية، ولم تَعُدْ أسعار الفائدة تُشِيرُ إلى أيِّ معنى مالي في ظلِّ الرفع المُتَتَالِي لأسعار الفائدة. نحن في دوامةٍ اقتصاديةٍ حقيقيةٍ، واقتصادٍ مرئيٍّ غير حقيقيٍّ.. نحن في مرحلةٍ غير مُتَبَلوِرَةٍ من المراحل الاقتصادية.. فهل نحن في حالة تباطؤٍ تَسبِقُ انكماشاً يُمهِّدُ لأزمةٍ كبرى؟ أم نحن في مرحلة تَعَافٍ تَتلُو مناخ الجائحة، وتَسبِقُ انتِعَاشَاً واسِعَاً يَجِدُ مُؤشِّرَاتَهُ في ارتفاع النموِّ الصيني؟ فلا يمكن الاكتفاء بالأزمة الأوكرانية إذا كنَّا بصدد تحليل الاقتصاد الدولي؛ لأنَّ الحروب الواسِعَة تُؤثِّرُ في البيئة المحيطة بها وقد يَمتَدُّ تأثيرها خارج الحدود، لكن هذا لا يَقطَعُ بحدوث أزمةٍ. حتى الحرب العالمية الثانية، التي دمَّرت الاقتصاد الأوروبي، فقد كانت الولايات المتحدة مُستَفِيدَةً من اقتصاد الحرب.
فإذاً لا يُوجَدُ مؤشرٌ حقيقيٌّ قادرٌ على تفسير الصورة الاقتصادية المُتَشَكِّلَةِ مع حلول منتصف عام 2023 سوى أنَّنا نعيش ظروفاً اقتصاديةً غيرَ مسبوقةٍ. وعليه، فنَحنُ نَعِيشُ اقتصاد السراب؛ ذلك الذي لا هويةً واضِحَةً له، ولا مُستَقبَلاً مَنطِقِياً ينتظرهُ.
فإذا استمرَّت الأزمة الأوكرانية، فإنَّ الرابح سيكون مجموعة بريكس التي تضمُّ العِملَاقَيْن الروسي والصيني؛ لأنَّ الثقة بالدولار الأمريكي -يرافقه اليورو بالطبع- تنهارُ كعملةٍ مِعيَارِيَّةٍ مع استمرار الأزمة. أمَّا إذا حلَّ السلام في سهول القمح الأوكرانية، وعادَ الأمريكيُّون والأوروبيُّون إلى رُشدِهِم بعدَ إنفاقِهِم غير المنطقيِّ على الحرب، عندها يمكن أن يَرجِعَ التفاؤل إلى البيئة الأوروبية.
بينما إذا استمرَّتْ الأوضاع بالتصعيد -وهو ما يبدو عليه الأمر حتى الآن- فإنَّ السراب الاقتصادي الذي نعيشْ اليوم سيَنقَشِعُ بشكلٍ مُغَايِرٍ تماماً. وسيَتَبَدَّى اقتصادٌ دوليٌّ منقسمٌ إلى أقطابٍ، أشبَهُ ما يكون باقتصاد زمن الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
لكن الفرق هذه المرَّة هي أنَّ الاقتصاد السوفييتي كان يعيش إيديولوجيا الدعم الاجتماعي وإمساك الدولة بالسوق، أمَّا روسيا الاتحادية اليوم فهي ذاتُ اقتصادٍ مُنفَتِحٍ وعقليةٍ تجاريةٍ مغريةٍ للاستثمار الخاص. أي أنَّ انقسام الاقتصاد الدولي -كمصيرٍ شبه محتومٍ للأزمة الأوكرانية- سيَجعَلُ من العقوبات الأمريكية والأوروبية على روسيا جِسرَاً لعبور الاقتصاديات الشرقية الناشِئَةِ من مرحلة النموِّ والمنافسة، إلى آفاق التطوُّر المُتَسَارِعِ والريادة. وهذا لا يَعنِي أنَّ المكسب سيكون في خانة الاقتصاد الصيني والروسي إلى درجة الصدارة، بل إلى مرحلة الاقتصاد الدولي مُتَعدِّد الأقطَاب.
أي الاقتصاد الذي نَرَى فيه أبواباً مُستَقِلَّةً عن بعضها بعضاً؛ من بداية المواد الأولية والتصنيع، إلى الإنتاج والبيع والتوزيع. أمَّا الرابح الأكبر من تَعَدُّد الأقطاب الاقتصادية سيكون هو الاقتصاد القادِرِ على جَذبِ أكبرِ قَدرٍ مُمِكنٍ من الطرق التجارية ولوجستيات الأعمال، إلى أن تُصبِحَ سلاسل الإمداد العالمية تمرُّ من هذا الاقتصاد على اختلافِ أقطابِهَا.