انسحاب نصف الأمة من بيت الأمة هو جرس انذار لكل الأمة برجالها ونسائها. فالمشهد، على رمزيته، لا يعطي إشارات على التراجع الذي نحن عليه اليوم فحسب، بل على قادم من الأيام بلون أسود تتعطل فيه الطاقات وتقفل الآفاق وتتجمد مشاريع التنمية وتصاب معه مبادئ الشراكة الاجتماعية والسياسية بخلل كبير… إن لم يكن قاتلا.
ما حصل بالأمس عند اقرار مقترح قانون المفوضية العليا للانتخابات ليس منفصلا عما سبقه بل هو تتويج له. ورغم الاحترام الكامل لكل التوجهات الا ان هناك فاصلا واضحا بين اعلان القناعة وبين فرضها. بين طرح الفكرة وبين التشكيك في قيم الآخرين. بين الديموقراطية وبين الوصاية. بين التعبير عن رأي وبين اخضاع الجميع لفحوص تثبت التزامهم وتمسكهم بدينهم وشريعتهم.
من عودة الرقابة المسبقة على الكتب إلى شرط التزام احكام الشريعة الاسلامية للترشح والانتخاب، مرورا بالاقتراحات شبه اليومية مثل عمليات التجميل والسحر والوشم وتعميم المدارس الدينية… كلها وغيرها صارت أولويات في مجتمع عرف تاريخيا بأنه محافظ بالفطرة ومنفتح على التطور والحداثة في الوقت نفسه. لم تنتقص الكويت من الشرع والشريعة عندما كانت منارة الخليج وجامعة الخليج وسياحة الخليج ومستشفى الخليج ونجمة الخليج ثقافيا وفنيا. لم يفرض أحد على ابنائها وبناتها شيئا لسبب بسيط هو أن أسرها وعائلاتها وكياناتها الاجتماعية تعرف معنى الالتزام وتعرف الصح من الخطأ وتعطي دروسا في ترجمة هذه المعاني بدلا من تلقي الدروس.
أولوياتنا اليوم ليست هنا أبدا. ولن نكرر المكرر، بدءا من مشاكل التعليم والاسكان والصحة وانتهاء بسوق عمل نريد ان نرى شبابنا وبناتنا يقتحمونه بسلاح العلم والمعرفة لصنع المستقبل وتمهيد الطريق لجيل يلحقهم.
… ولكن، ليسمع من يجب أن يسمع. ما يحدث اليوم في ضياع الأولويات هو نحر للنظام الدستوري والسياسي والاجتماعي من قبل البعض وانتحار من البعض الآخر الذي يقف صامتا أمام ما يجري. الآليات الحالية يجب أن تتغير جذريا والا فسنصحو يوما، كما في مشاهد الواقع الافتراضي، على العيش في منطقة منكوبة بين مناطق مجاورة تسابق الزمن في الارض والفضاء، مكتفين بإحصاء عدد الطاقات الكويتية الكبيرة التي تهاجر اليها.
لنكن أكثر صراحة في مقاربة الأمور. آلية العمل السياسي اليوم قائمة على:
سلطة تنفيذية همها فقط عدم توتر العلاقة مع مجلس الأمة ولذلك فهي تساير النواب حرصا على البقاء. رضا الحكومة عند النواب هو الأولوية المطلقة وأهم بكثير من الاصرار على المشاريع المنتجة.
وقائمة على نظام انتخابي فردي يتفرع واقعيا الى خطوط قبلية ومذهبية ومناطقية، فيصبح النائب أسير الناخب وسجين قاعدة الخدمات، وتنكفئ البرامج التنموية لمصلحة معاملات “اللا مانع”، وتمتلئ المقرات الانتخابية بشرائط مصورة تظهر كم أدخل هذا المرشح او ذاك موظفين الى الوزارات المختلفة.
والأهم من هذا وذاك، آلية العمل السياسي قائمة ايضا على شراكة النظام في الإدارة. فالسلطة التنفيذية تقاد عمليا من أبناء الأسرة ما يعني ان النظام هو اللاعب الرئيسي وبالتالي تتوجه إليه الانظار بوصفه مصدة للتراجع وحاميا للدستور والحريات والديموقراطية… لكن من المهم بالنسبة الى الكويتيين أيضا أن يساهم هذا اللاعب الرئيسي في فتح آفاق التنمية والتطور وصون الأولويات التي تؤمن مستقبل الأجيال.
علقنا الجرس مرارا، وسنستمر في تعليقه، فنحن أبناء بناء لا هواة نحر وانتحار. قواعد اللعبة كلها يجب ان تتغير عاجلا وليس آجلا. الكويت على مفترق طرق، فإما ردة في مختلف المجالات وإما نهضة في مختلف المجالات. المسكنات لا تنفع وها قد أوصلتنا إلى ما نحن عليه. حصل تهاون في أمور كبرى فاحتلت الأمور الصغرى الأولويات ووصلنا مرحلة صار فيها طلب الإذن من وزارتي الداخلية والصحة لتصحيح أنف أهم من تصحيح وضع المناطق الحرة وأسواق العمل والمدن الاسكانية.
لا نريد أن نقول إما السقوط في الهاوية وإما الصعود إلى أعلى. إما افغانستان وإما النرويج. بل نريد ان نقول: إما الكويت وإما اللاكويت. هذه الدولة ومنذ تأسيسها حمتها اسوار بنيت بسواعد ابنائها، وكلما انهدم سور في فترة ما بني سور اخر. اليوم سور الكويت الحامي هو دستورها وديموقراطيتها، لكن شروخا كثيرة باتت واضحة وجلية عليه ولا يمكن غض النظر عنها وان اعتقد البعض انها صغيرة… فما النار إلا من مستصغر الشرر وما النور إلا العمل الجاد لتحصين هذا السور واعادة تثبيته كي لا ينهار.
نحتاج إلى إعادة بناء شاملة وليس البقاء أسرى الترميم والتعديل. إعادة بناء للنظام السياسي عبر نسف النظام الانتخابي جذريا كمدخل الزامي لصيانة النظامين الاجتماعي والاقتصادي. ونقول نسف النظام الانتخابي وليس تعديله حتى نرى قوائم جامعة ولوائح مشتركة عبر أحزاب وطنية تدخل الكويت عصر الديموقراطية المؤسساتية وتنهي النظام الفردي القائم حاليا مع مساوئه على كل الصعد. وإن لم نقم بالأمر اليوم فقد يؤدي التهاون إلى الانهيار الكامل وليس إلى تراجع الكويت كما يحكى يوميا… ولنا في التاريخين القديم والحديث أمثلة وشواهد.
اللهم أني بلغت… اللهم فاشهد.
* صاحب مؤسسة الراي الاعلامية