“صخرة سيزيف.. وغلاء الدولار”

الدكتور همام القوصى يكتب ..

alx adv
تَنتَمِي الأساطير إلى الميثيولوجيا المُجتَمَعيَّة، وهي نوع من الهوية الثقافية المُتَجَذِّرَةِ في قصص الشعوب وأساطيرها، والتي تَصِلُ إلى درجة الانتماء والتصديق بين أفرادِهَا. لكن هذه الأساطير تُمثِّلُ نَوعَاً من التجارب الإنسانية المأساوية الملحمية ذات العبرة والأثر العميق في النفس؛ حيث إنَّ مرور شخصٍ في قديم الزمان بصَدمَةٍ هزَّت إنسانيَّتَهُ، سيُحَوِّلُ هذه التجربة إلى قِصَّةٍ مَمزُوجَةٍ ببعض الخيال فتُصبِحُ أسطورةً. فالخيال الإنساني يَتَعَاطَفُ مع التجارب المُؤلِمَة النابعة من تَارِيخِهِ، ويَتَعَلَّم منها حتى وإن رافقها الخيال الأسطوري، وقد تُشكِّلُ مع انقضاء القرون ثَقَافَتَهُ وهُوَيَّتَهَ الشعبية.

 

تقول أسطورة سيزيف الإغريقية أنَّ شخصاً قوياً يحلم بإيصالِ صخرةٍ كبيرةٍ إلى أعلى جبلٍ، فَيَتَحَمَّلُ عناءَ المحاولة تِلْوَ الأخرى، ويَتَألَّمُ جَسَدُهُ من شِدَّة ضغط الصخرة عليه، وكلما كاد يصل إلى قمَّة الجبل، تَسقُطُ الصخرة من يَدِيهِ، وتَهوِي إلى أسفل الجبل، فيَنزِلُ سيزيف إليها، ويُعِيدُ حَمْلَ الصخرة مُجدَّداً، وهكذا، كلَّمَا كادَ يَصِلُ إلى قمَّة الجبل، تَسقُطُ الصخرة مرَّةً أخرى من َيدِيهِ، ولم يصل أبداً، وذهبت مجهوداته طوال عمره سُدىً. إنَّهَا قصةٌ مأساويةٌ، لكنَّها تَعكِسُ هَدرَ العمر والشباب والقوة على هدفٍ مستحيلٍ، دون أن يُطوِّرَ الإنسان من أسلُوبِهِ، ودون أن يَقتَنِعَ بضرورة التغيير الحتمية.

 

وقد يُحَاكِي البعض فَشَلَ سيزيف بإيصالِ الصخرة إلى قمَّة الجبل بسوء الحظ، فهذا الإنسان لم يكنْ غبيَّاً، بل كَادَ أن يَصِلَ، لكن الظروف كانت تَمنَعُهُ، فالهدف الذي يُزَيِّنُ مُخَيِّلَتَهَ لم يكنْ مستحيلاً والأسلوب الذي انتهجه لم يكنْ خاطئاً، لكن تَدَخَّلَت ظروفٌ أقوى منه ومَنَعَتْهُ من الوصول إلى هَدَفِهِ؛ وهنا يكمن تَقصِيرُهُ في تَجَاوُزِ سوء الحظ هذا. لكن النتيجة بكلِّ الأحوال كانت واحدةً، فقد فَشِلَ سيزيف وفق الأسطورة، وقَضَى عُمرَهُ في محاولاتٍ يائسةٍ، وبَقِيتْ الصخرة أسفل الوادي، وفَنِيَت قوَّة سيزيف بلا طائلٍ ولا إنجازٍ، سوى المحاولة.
وإذا أدرنا مرآة التاريخ من زمن الإغريق إلى يومنا هذا، فَكَمْ مِن سيزيفٍ نرى كلَّ يومٍ، كمْ من حلمٍ اصطَدَمَ بظروف الواقع، كمْ من منهجٍ فَشِلَ في تحقيق الهدف. فكلُّ ما يَشغُلُ بالَنَا ويُؤَرِّقُ مُخيِّلَتَنَا هو مُحَاوَلَاتُنَا الفاشِلَةِ؛ أي هو سيزيفُ الكامن في شخصية كلٍّ منَّا. وإذا نظرنا إلى الواقع المعيشي في معظم الدول العربية -باستثناء الخليجية-، لوجدنا أنَّ سيزيف يَسكُنُ في صدور الناس! فالأحلام التي كانت قيمَتُهَا ألف من العملة الوطنية، يَدَّخِرُ لأجلِهَا محدود الدخل، وعندما تَصِلُ مدَّخَرَاتِهِ إلى 999، سَيَجِدُ أنَّ حُلمَهُ قد أصبَحَ بقيمة 1200، فيأخذ الإنسان نَفَسَاً عميقاً مثل أنفاس سيزيف، ويَستَمِرُّ بالمحاولة، وعندما يَصِلُ المبلغ معه إلى 1199، يَجِدُ أنَّ حُلمَهَ قد أصبَحَ بقيمة 1500، ويَسقُطُ الحلم في كلِّ مرةٍ كما سَقَطَت صخرة سيزيف الأسطورية مع كل موجة غلاء.

 

والمشكلة أنَّ ضَغطَ الغلاء ليس بسبب عوامل تَعُودُ إلى ضرورة بذلِ النشاط من الإنسان المُدَّخِر، بل ببساطةٍ بسبب قيمة الدولار كعملةٍ معياريةٍ مَتَعَارَفٍ عليها لقياس القيمة حول العالم. فعلى الرغم من أنَّ الدولار هو عبارةٌ عن ورقةٍ مطبوعةٍ، لا تَستَنِدُ على أيِّ معدنٍ ثمينٍ منذ صدمة نيكسون في عام 1971، بل تَستَنِدُ ورقة الدولار على الثقة بالاقتصاد الأمريكي فقط. فَلَنَا أن نَتَصوَّرَ أنَّ حركة التجارة الدولية تَقِيسُ القيمة اعتماداً على عملة اقتصاد دولةٍ واحدةٍ ذات اقتصادٍ رأسماليٍّ يَمُرُّ بأزماتٍ متتابعةٍ كما هو قانون الاقتصاد الحر.

 

أزمة 1929، ثم 1987، ثم 2002، ثم 2009، ثم 2020، وأخيراً 2022، التي دَفَعَت الولايات المتحدة إلى طباعة المليارات من الدولارات بِهَدَفِ تَغطِيَةِ التِزَامَاتِهَا وتسديدِ دِيُونِهَا دون أيِّ سندٍ ماليٍّ أو استثماريٍّ لهذه العملة الجديدة، بل فقط بِسَنَدِ الثقة، ويَالَهَا من ثقة. بالطبع فإنَّ زيادة عدد المطروح من أية عملةٍ دون أن تُغَطِّي هذه الزيادة بالنمو في القيمة المالية للاقتصاد، تَعنِي ببساطةٍ زيادة معدَّلات التضخُّم، لأنَّ طرح المزيد من “الورق الدولاري” يَعنِي زيادة عَرضِهِ على حساب ثَبَاتِ الطلب على العملة من الدول المستوردة أو حتى تضاؤله مع مرور الاقتصاد الدولي بمُؤَشِّرات التباطؤ والانكماش.

 

 

لكن ما حِيَالَ الإدارة الأمريكية أن تَفعَلَ في ظلِّ أزمة سيولةٍ طَاحِنَةٍ سَبَّبتها الجائحة ثم الأزمة الأوكرانية، وزيادة غير متوقعة بالبطالة ونِسَبِ التضخُّم، في ظلِّ ديونٍ سياديةٍ أمريكيةٍ هائلةٍ، وسُمعَةٍ عالميةٍ لا يجوز أن تَسقُطَ. لكن هذه “الفلهوة” الأمريكية لم تمرَّ على الكثير من الدول المُصَدِّرَةِ للثروات، حيث بدأتْ تلك الدول تَستَشعِرُ خَيبَةَ سيزيف؛ فإذا استمرَّت الدول المُصَدِّرَةِ للنفط بتَقَاضِي قيمة النفط بالدولار فقط، فهذا سَيَعنِي أنَّ قيمة ثَروَتِهَا سَتَبدَأ بالانخفاض مع كلِّ موجة غلاءٍ سَبَبُهَا انخفاض قيمة الدولار.

 

وهكذا، وَجَدنا أنَّ مجموعة بريكس -التي أصبَحَت تضمُّ 80% من مُنتِجِي النفط حول العالم- تَتَّجِهُ نحو تقاضي قيمة الثروة بعُملَاتِهَا المحلية، وتسعى للاستناد على الذهب كمخزنٍ للقيمة الخاصَّة بالعملة المُوَحَّدة المُزمَعِ إصدارُهَا لدول المجموعة؛ في ضربةٍ قاضيةٍ للدولار لمَّا تَظهَرُ آثارُهَا بعدُ، وقد يتأخَّر ظهور تلك الآثار لبعض السنوات حتى تنهار الثقة شيئاً فشيئاً بقدرة الولايات المتحدة على التصدِّي للاقتصاد مُتَعَدِّد الأقطاب.
نعود هنا إلى الدول العربية التي لا تَمتَلِكُ من الثروة ما يَكفِي لتَحَدِّي الدولار المعياري عالمياً، فهي الآن تُعَانِي من انخفاض قيمة العملات الوطنية في مواجهة الدولار؛ لأن هذه الدول تُعَانِي ظروفاً تضخميةً وانكماشيةً هي الأخرى، وتُقِيِّدُ الديون حَرَكَتَهَا، وتَمنَعُ الظروف السياسية بعضَهَا من مُجَرَّدِ التقاطِ الأنفاسِ.

 

في مثل هكذا انهيار بالقيمة الوطنية للعملة تُعَانِي الحكومات ما يُعَانِيهِ مُوَاطِنُهَا بسبب الغلاء، فالحكومة هي سيزيفٌ آخرٌ تَعمَلُ لَيلَ نهارٍ لتحصيلِ الموارد، وتَصدِيرِ السلع، ومُضَاعَفَةِ الإنتاج، وسداد الديون، واستعادة الثقة في اقتصادها؛ لكن في النهاية تَحُلُّ موجة غلاءٍ جديدةٍ فتَسقُطُ صخرة سيزيف من يَدِ الحكومة وتُعَاوِدُ حَملَهَا بانتظار موجة الغلاء الآتية.

 

والسبب ببساطةٍ هو أنَّ هذه الصخرة ما هي إلاَّ الورق الدولاري الذي أصبَحَ هدفاً عزيزاً لادِّخار القيمة، في نفس الوقت الذي يَقِفُ فيه الدولار على قدمٍ واحدةٍ مترنحاً قبل السقوط. إنَّها نقطةٌ فَارِقَةٌ شديدة التناقُض في التاريخ الاقتصادي؛ فالدول التي تَعَانِي من ميزانٍ تجاريٍّ خاسرٍ -أي التي تَستَورِدُ بقيمةٍ أكبر ممَّا تُصدِّر- هذه الدول تَنزِفُ قيمة اقتصادِهَا القومي، ومَعَهُ تنهارُ قيمة عُملَتِهَا الوطنية.

 

وإذا أرَادَت هذه الدول تَرْكَ صخرة سيزيف، والوقوفَ على أرضٍ صَلبةٍ بعيداً عن الخيبات والمحاولات اليائسة للَّحَاقِ بسِبَاقِ الدولار المستحيل، عليها بتغيير منظومة التخطيط والتنفيذ لبَرنَامَجِهَا الاقتصادي، وفق ما يلي: أولاً: تغيير منهجية قياس القيمة في التعاملات التجارية الدولية؛ فالثروات الموجودة في الدولة يَجِبُ إعادة تَقيِيمِهَا وفق قيمةٍ معياريةٍ غير الدولار؛ مثل الذهب أو سلَّة عملاتٍ، ثم يتمُّ تحديد سِعرِهَا على ضوء القيمة المعيارية الجديدة؛ حتى لا تتأثَّر قيمة الثروة الوطنية باهتزاز الثقة في الدولار.

 

ثانياً: فرض العملة الوطنية كأداة سدادٍ استثماريةٍ، وحِمَايَتِهَا من المضاربة في سوق العملات: حيث إنَّ مشكلة الغلاء بالأساس هي في استيراد السلع من مُصدِّرِينَ يَشتَرِطُونَ السداد بالدولار، فيتمُّ بيع العملة الوطنية لشراء الدولار، وتَبقَى العملة الوطنية مُجرَّد أداة سدادٍ رسميةٍ في الداخل يتمُّ قياسُ قِيمَتِهَا من خلال حَجمِ عَرضِهَا في مقابل دولار التصدير، إضافةً إلى كَونِهَا أداة مضاربةٍ في السوق السوداء لتحقيق أرباحٍ غير مشروعةٍ من خلال هزِّ الثقة في الاقتصاد الوطني.

 

والحل يكمن في تقييد الاستيراد من المَصَادِرِ التي تَشتَرِطُ الدولار كعملة سدادٍ وحيدةٍ، ورفع الضرائب (ضريبة الدخل الصافي والقيمة المضافة) على هذه السلع بحيث ينخفض الطلب عليها، وهكذا، ستنخفض قيمتها مع الوقت.

 

 

ذلك مع توفير بدائلٍ لذات السلع من دولٍ مثل مجموعة البريكس بحيث يتمُّ سداد قِيمَتُهَا بالعملات الوطنية أو بالعملة المُشتَرَكَة التي تَنوِي المجموعة إصدارها مدعومةً في قِيمَتِهَا على الذهب، وهكذا يُصبِحُ الذهب كمعدنٍ نفيسٍ هو القيمة المعيارية بدلاً من الدولار.

 

ثالثاً: تعويض نزيف قيمة المُدَّخرات الشعبية بالعملة الوطنية: حيث يَجِبُ الانطلاق من شرائح ذوي الدخل المحدود، وحماية أجُورِهِم ومُدَّخَرَاتِهِم من التضخُّم، فلا يجوز تَجَاهُلُ انهيار قيمة الودائع بالعملة الوطنية في البنوك، بل يجب تعويض أصحَابِهَا، ليس بالضرورة بما يُغطِّي كامل الخسارة، بل بالقدر الذي يُشعِرُ المُدَّخِرَ بالعملة الوطنية أنَّه مَحمِيٌّ من خلال تخطيطٍ اقتصاديٍّ يَجبُرُ جزءاً من خسارته، وهو ما يساهم باستعادة الثقة بالعملة الوطنية.

 

 

 

رابعاً: التسويق للأسهم المُدرَجَة بالبورصة كمخزنٍ للقيمة، بدل العملات الأجنبية: هو الأمر الذي يَحتَاجُ إلى الثقافة الشعبية التي تَلعَبُ دوراً اساسياً في استعادة الثقة بالاقتصاد الوطني. فبَدَلاً من شراء العملات الأجنبية كمخزنٍ للقيمة، يمكن شراء الأسهم التي تَبقَى مُحَافِظَةً على جزءٍ من قِيمَتِهَا حتى وإن انخفضت العملة المحلية. وحتى الراغبين بادخار المعادن النفيسة يمكن طرح أوراقٍ ماليةٍ للشركات الوطنية العامِلَةِ في هذا القطاع كبديلٍ استثماريٍّ بالبورصة لهم. كما يمكن التركيز على الأوراق المالية التي تُرَاعِي أحكام الشريعة الإسلامية، حيث يكمن الحاجز النفسي الأكبر لدى المسلمين من البورصة في تَخَوُّفِهِم من مخالفة الأحكام المالية للشريعة، فيمكن طرح أوراقٍ ماليةٍ تَصدُرُ من شركاتٍ تَعمَلُ وفق أحكام الشريعة، كما يمكن أن يَقوم وسطاءٌ ماليوُّن يَخضَعُون لذات الضوابط الشرعية، بتنفيذ عمليات التداول في نظام البورصة. بالنتيجة، الحلُّ النهائيُّ للغلاء وانفِصَالِ قيمة العملة الوطنية عن الدولار؛ يكمن في زيادة جودة وحجم الإنتاج المَحَلِّي المُخَصَّص للتصدير، وتوفير البديل غير الدولاري للسلع المستورَدَة، وتقييد استيراد واستهلاك السلع الدولارية مع زيادة الضرائب لخفض الطلب عليها وخفض أسعَارِهَا وفق قانون العرض والطلب، وتشجيع الادخار بالعملة الوطنية مع تعويض المُدَّخِرِينَ عن جزءٍ من خسارة القيمة إذا حَصَلَت، وربط القيمة شعبياً بالبورصة وأسواق المال بدلاً من العملات الأجنبية.

 

فمِن غير المنطقيِّ أن تَرتَبِطَ اقتصاديات الشرق والغرب بأداء اقتصاد دولةٍ رأسماليةٍ واحدةٍ، تُعَانِي هي ذَاتُهَا من ضغوطٍ تضخُّميةٍ هائلةٍ. فالخوفُ حِينَهَا على الحكومات التي لن تُطوِّرَ من سياستها المالية، ولن تَدعَمَ قيمة دَخلِهَا القومي، ستجد هذه الحكومات نَفَسَهَا يوماً ما تَحمِلُ صخرة سيزيف، وكلَّما زَادَت وَارِدَاتُهَا، سَقَطَتْ الصخرة مع استمرار نزيف قيمة الدخل القومي! وحتى وإن زَادَتَ مَوَارِدَهَا من الدولار، سَقَطَتْ الصخرة مرةً أخرى مع الانهيار الحتمي القادم في الثقة بالورق الدولاري!!

 

يقدم فريق بوابة عالم المال، تغطية حصرية ولحظية على مدار الساعة ، لآخر مستجدات البورصة والشركات المدرجة، البنوك وأسعار الدولاروالتأمين، العقاري، والصناعة والتجارة والتموين، الزراعة، الاتصالات، السياحة والطيران، الطاقة والبترول، نقل ولوجيستيات، سيارات، كما نحلل الأرقام والإحصائيات الصادرة عن المؤسسات والشركات والجهات من خلال الإنفو جراف والرسوم البيانية، الفيديو، فضلا عن تقديم عدد من البرامج المتخصة لتحليل كل ما يتعلق بالاقتصاد المصري من خلال تليفزيون عالم المال.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار