نعود هنا إلى الدول العربية التي لا تَمتَلِكُ من الثروة ما يَكفِي لتَحَدِّي الدولار المعياري عالمياً، فهي الآن تُعَانِي من انخفاض قيمة العملات الوطنية في مواجهة الدولار؛ لأن هذه الدول تُعَانِي ظروفاً تضخميةً وانكماشيةً هي الأخرى، وتُقِيِّدُ الديون حَرَكَتَهَا، وتَمنَعُ الظروف السياسية بعضَهَا من مُجَرَّدِ التقاطِ الأنفاسِ.
في مثل هكذا انهيار بالقيمة الوطنية للعملة تُعَانِي الحكومات ما يُعَانِيهِ مُوَاطِنُهَا بسبب الغلاء، فالحكومة هي سيزيفٌ آخرٌ تَعمَلُ لَيلَ نهارٍ لتحصيلِ الموارد، وتَصدِيرِ السلع، ومُضَاعَفَةِ الإنتاج، وسداد الديون، واستعادة الثقة في اقتصادها؛ لكن في النهاية تَحُلُّ موجة غلاءٍ جديدةٍ فتَسقُطُ صخرة سيزيف من يَدِ الحكومة وتُعَاوِدُ حَملَهَا بانتظار موجة الغلاء الآتية.
والسبب ببساطةٍ هو أنَّ هذه الصخرة ما هي إلاَّ الورق الدولاري الذي أصبَحَ هدفاً عزيزاً لادِّخار القيمة، في نفس الوقت الذي يَقِفُ فيه الدولار على قدمٍ واحدةٍ مترنحاً قبل السقوط. إنَّها نقطةٌ فَارِقَةٌ شديدة التناقُض في التاريخ الاقتصادي؛ فالدول التي تَعَانِي من ميزانٍ تجاريٍّ خاسرٍ -أي التي تَستَورِدُ بقيمةٍ أكبر ممَّا تُصدِّر- هذه الدول تَنزِفُ قيمة اقتصادِهَا القومي، ومَعَهُ تنهارُ قيمة عُملَتِهَا الوطنية.
وإذا أرَادَت هذه الدول تَرْكَ صخرة سيزيف، والوقوفَ على أرضٍ صَلبةٍ بعيداً عن الخيبات والمحاولات اليائسة للَّحَاقِ بسِبَاقِ الدولار المستحيل، عليها بتغيير منظومة التخطيط والتنفيذ لبَرنَامَجِهَا الاقتصادي، وفق ما يلي: أولاً: تغيير منهجية قياس القيمة في التعاملات التجارية الدولية؛ فالثروات الموجودة في الدولة يَجِبُ إعادة تَقيِيمِهَا وفق قيمةٍ معياريةٍ غير الدولار؛ مثل الذهب أو سلَّة عملاتٍ، ثم يتمُّ تحديد سِعرِهَا على ضوء القيمة المعيارية الجديدة؛ حتى لا تتأثَّر قيمة الثروة الوطنية باهتزاز الثقة في الدولار.
ثانياً: فرض العملة الوطنية كأداة سدادٍ استثماريةٍ، وحِمَايَتِهَا من المضاربة في سوق العملات: حيث إنَّ مشكلة الغلاء بالأساس هي في استيراد السلع من مُصدِّرِينَ يَشتَرِطُونَ السداد بالدولار، فيتمُّ بيع العملة الوطنية لشراء الدولار، وتَبقَى العملة الوطنية مُجرَّد أداة سدادٍ رسميةٍ في الداخل يتمُّ قياسُ قِيمَتِهَا من خلال حَجمِ عَرضِهَا في مقابل دولار التصدير، إضافةً إلى كَونِهَا أداة مضاربةٍ في السوق السوداء لتحقيق أرباحٍ غير مشروعةٍ من خلال هزِّ الثقة في الاقتصاد الوطني.
والحل يكمن في تقييد الاستيراد من المَصَادِرِ التي تَشتَرِطُ الدولار كعملة سدادٍ وحيدةٍ، ورفع الضرائب (ضريبة الدخل الصافي والقيمة المضافة) على هذه السلع بحيث ينخفض الطلب عليها، وهكذا، ستنخفض قيمتها مع الوقت.
ذلك مع توفير بدائلٍ لذات السلع من دولٍ مثل مجموعة البريكس بحيث يتمُّ سداد قِيمَتُهَا بالعملات الوطنية أو بالعملة المُشتَرَكَة التي تَنوِي المجموعة إصدارها مدعومةً في قِيمَتِهَا على الذهب، وهكذا يُصبِحُ الذهب كمعدنٍ نفيسٍ هو القيمة المعيارية بدلاً من الدولار.
ثالثاً: تعويض نزيف قيمة المُدَّخرات الشعبية بالعملة الوطنية: حيث يَجِبُ الانطلاق من شرائح ذوي الدخل المحدود، وحماية أجُورِهِم ومُدَّخَرَاتِهِم من التضخُّم، فلا يجوز تَجَاهُلُ انهيار قيمة الودائع بالعملة الوطنية في البنوك، بل يجب تعويض أصحَابِهَا، ليس بالضرورة بما يُغطِّي كامل الخسارة، بل بالقدر الذي يُشعِرُ المُدَّخِرَ بالعملة الوطنية أنَّه مَحمِيٌّ من خلال تخطيطٍ اقتصاديٍّ يَجبُرُ جزءاً من خسارته، وهو ما يساهم باستعادة الثقة بالعملة الوطنية.
رابعاً: التسويق للأسهم المُدرَجَة بالبورصة كمخزنٍ للقيمة، بدل العملات الأجنبية: هو الأمر الذي يَحتَاجُ إلى الثقافة الشعبية التي تَلعَبُ دوراً اساسياً في استعادة الثقة بالاقتصاد الوطني. فبَدَلاً من شراء العملات الأجنبية كمخزنٍ للقيمة، يمكن شراء الأسهم التي تَبقَى مُحَافِظَةً على جزءٍ من قِيمَتِهَا حتى وإن انخفضت العملة المحلية. وحتى الراغبين بادخار المعادن النفيسة يمكن طرح أوراقٍ ماليةٍ للشركات الوطنية العامِلَةِ في هذا القطاع كبديلٍ استثماريٍّ بالبورصة لهم. كما يمكن التركيز على الأوراق المالية التي تُرَاعِي أحكام الشريعة الإسلامية، حيث يكمن الحاجز النفسي الأكبر لدى المسلمين من البورصة في تَخَوُّفِهِم من مخالفة الأحكام المالية للشريعة، فيمكن طرح أوراقٍ ماليةٍ تَصدُرُ من شركاتٍ تَعمَلُ وفق أحكام الشريعة، كما يمكن أن يَقوم وسطاءٌ ماليوُّن يَخضَعُون لذات الضوابط الشرعية، بتنفيذ عمليات التداول في نظام البورصة. بالنتيجة، الحلُّ النهائيُّ للغلاء وانفِصَالِ قيمة العملة الوطنية عن الدولار؛ يكمن في زيادة جودة وحجم الإنتاج المَحَلِّي المُخَصَّص للتصدير، وتوفير البديل غير الدولاري للسلع المستورَدَة، وتقييد استيراد واستهلاك السلع الدولارية مع زيادة الضرائب لخفض الطلب عليها وخفض أسعَارِهَا وفق قانون العرض والطلب، وتشجيع الادخار بالعملة الوطنية مع تعويض المُدَّخِرِينَ عن جزءٍ من خسارة القيمة إذا حَصَلَت، وربط القيمة شعبياً بالبورصة وأسواق المال بدلاً من العملات الأجنبية.
فمِن غير المنطقيِّ أن تَرتَبِطَ اقتصاديات الشرق والغرب بأداء اقتصاد دولةٍ رأسماليةٍ واحدةٍ، تُعَانِي هي ذَاتُهَا من ضغوطٍ تضخُّميةٍ هائلةٍ. فالخوفُ حِينَهَا على الحكومات التي لن تُطوِّرَ من سياستها المالية، ولن تَدعَمَ قيمة دَخلِهَا القومي، ستجد هذه الحكومات نَفَسَهَا يوماً ما تَحمِلُ صخرة سيزيف، وكلَّما زَادَت وَارِدَاتُهَا، سَقَطَتْ الصخرة مع استمرار نزيف قيمة الدخل القومي! وحتى وإن زَادَتَ مَوَارِدَهَا من الدولار، سَقَطَتْ الصخرة مرةً أخرى مع الانهيار الحتمي القادم في الثقة بالورق الدولاري!!