عندما أعلنت الحكومة عن مُبادرة سيارت المصريين بالخارج، تم النظر إليها من جانب قدرتها على جذب جانب من مُدخراتهم، ولكنها أغفلت أنه ومع نجاح المُبادرة في جمع نحو مليار دولار حتى نهاية 2023، فإن الجانب الأخر منها هو إنفاق المصرين لأكثر من هذا الرقم في الخارج من أجل شراء تلك السيارات ونقلها، مما ترتب عليه استقطاع ما تم إنفاقه في الخارج من تحويلات المصريين، فضلاً عن خلق طلب شراء متزايد للدولار من السوق الموازي حتى يقوموا بشراء سيارات من الخارج داخل المُبادرة بأسماء مصريين بالخارج وهو الأمر الذي حدث أيضاً في مُبادرة السماح بدخول الذهب بدون جمارك والتي نجحت في إدخال نحو 3 طن من الذهب، وكان جانب كبير منه تم شراؤه لحساب مصريين بالداخل قاموا بشراء الدولار من السوق الموازية من أجل شراء الذهب، مما دفع نحو رفع مُتزايد لسعر الدولار، مع الإضرار بفرصة زيادة الإيرادات الجمركية. وفي مُبادرة “معاشك بكرة بالدولار” تم طرح وثائق معاش يتم شرائها بالدولار للمصريين بالخارج، بقيمة 500 دولار كحد أدنى، و10 آلاف دولار كحد أقصى، وهي المُبادرة التي تم طرحها في أغسطس 2023 ولم يتم إعلان نتائجها على وجه الدقة، ومن المُتوقع محدودية تأثيرها في ظل زيادات مُتتالية في سعر الدولار بالسوق الموازية لتكون تلك الزيادة بمثابة إيراد ذاتي لحائز الدولار، مع وجود أوعية ادخارية وتأمينية مُنافسة بالجنيه المصري. وفي ظل طرح مُتتالي للأراضي والوحدات السكنية للمصريين بالخارج نجد أن تلك الطروحات لم تعد بذات البريق السابق سيما مع ارتفاع أسعارها، وزيادة ربحية الفرصة البديلة وهي حيازة الدولار بعد أن تحول في حد ذاته لسلعة مُربحه لحائزها. والمؤكد أن ما تم الإعلان عنه من تراجع لتحويلات المصريين بالخارج بنسبة 30,8% خلال العام المالي 2022/2023 مع توقع استمرار تحويلات المصريين بالخارج عند مُستويات مُنخفضة خلال 2023/2024 يعد بمثابة إعلان بعدم نجاح المُبادرات الحكومية في تحقيق هدفها. ويأتي ذلك كون تلك المُبادرات كانت بمثابة علاج محدود، لتشخيص قاصر.
وبالنظر لتحويلات المصريين بالخارج نجد أنها وصلت لقمتها عند مُستوى نحو 32 مليار دولار عن نحو 14 مليون مصري، أي أن متوسط تحويلات المصري الواحد هي نحو 2300 دولار سنويا، وهذا الرقم أقل كثيراً من المسموح دخوله في حيازة القادمين بالخارج الذين يحق لهم حيازة حتى 10 ألاف دولار دون إلزامهم بالإفصاح عنها، وإذا كان المصريين بطبيعتهم مرتبطون بمصر، ووجود معظمهم بالخارج هو وجود قلق تهدده برامج التوطين ومخاطر الحفاظ على استمراريتهم، فإن المسار الطبيعي لمدخراتهم هو قدومها لمصر، ولكن في ظل وجود سعرين للدولار وإمكانية حملهم لمُدخراتهم عند دخولهم مصر حدث تراجع للأرقام الرسمية للتحويلات، وبينما ينتظر الكثير منهم عودتهم لمصر وفي حيازتهم مُدخراتهم السنوية كانت مبادرة استقدام السيارات دافعاً لإنفاق الكثير منهم لتلك المدخرات والحصول على قروض مُستقبلية لشراء سيارات، والأكثرية التي ادخرت الدولار من أجل بيعه في السوق الموازي عند عودتها وجدت في الارتفاعات المُتتالية لسعره أن الحفاظ على ما تمتلكه من دولارات أفضل من تحويله لأية أصول أو استثمارات أخرى فتعمقت الأزمة في ظل طلب مُتزايد من المواطنين بالداخل على الدولار بعد أن اعتبر الكثيرين أن حيازته بمثابة وعاءً إدخارياً واستثمار رابح.
من هنا نجد أن المُعضله الحقيقة هي في تراجع استخدام الجنيه كأدة ادخار واستثمار، وليس في قوة الدولار، ولكي نتعامل مع ذلك الواقع فإن الأفضل هو خلق أوجه إنفاق واستثمار محلية تُلبي رغبات المصريين بالداخل والخارج من أجل الإنفاق والاستثمار بالجنيه بصورة تدفعهم للتنازل عن الدولار وعدم استهداف حيازته، مما يُخفض الطلب عليه في السوق الموازية ليكون الهدف هو خفض سعر الدولار في السوق الموازية عبر زيادة العرض وخفض الطلب بها ليتقلص الفارق بين السعر الرسمي والسعر الموازي بما يسمح باتخاذ خطوات العودة للسعر الواحد.
وإذا كانت هناك مُبادرة يتم إعدادها لإطلاق شركة لاستثمارات المصريين بالخارج داخل مصر، فإن الأفضل هو تقسيم ما يمكن تقسيمة من الشركات المُزمع طرحها للاستثمار بصورة تسمح لمُبادرات مجموعات من المصريين بالخارج لتكوين شركات ذاتية للاستحواز عليها، فإذا كنا نُعد لطرح شركة خدمات بترولية، فلماذا لا يتم طرح محطات الخدمة المملوكة لتلك الشركة بصورة مُنفردة تسمح بأن يمتلك شركاء مصريين لمحطة أو أكثر من تلك المحطات، ويتعين أن لا يكون الهدف هو الشراء بالدولار، فالشراء بالجنيه يُعزز من قيمته، وتنازل حائزي الدولار عنه في السوق الموازي لتوجيهه للاستثمار يُخفض سعره بها. وفي هذا المسار وبعد نجاح مُبادرة تسوية الموقف التجنيدي للمصريين بالخارج مُقابل 5 ألاف دولار، فإن طرح تلك المُبادرة بالدخل لفترة محدودة يمكن أن يجمع مليارات الجنيهات سيكون لها تأثير إيجابي في مجال التنازل عن الدولار، وعدم التوجه لشراءة في ظل الرغبه في الحصول على تلك الفرصة. كما أن تسهيل إجراءات وضوابط البناء في المدن القديمة سيشجع المصريين بالخارج والداخل على التنازل عن الدولار وعدم التوجه له كوعاء ادخاري، بعد أن أثبت الواقع أن التضييق على قطاع البناء في المُدن القديمة لا يدفع الناس للتحول للمُدن الجديدة، ولكنه يدفعهم نحو زيادة الطلب على السلع المُستوردة، وطلب الدولار للادخار مما يعمق الأزمة.
الخلاصة هي أن تقديم مُبادرات لدعم الجنيه سينخفض الدولار، واستهدف جمع الدولار يزداد بريقه وقوته.
د. وليد عبد الرحيم جاب الله
عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع