
الشرقاوي: أفريقيا كنز أخضر و60٪ من أراضيها ضمن استراتيجية الغذاء
وسط دوامة من الاضطرابات الجيوسياسية التي كانت تفرض تعقيدات اقتصادية متلاحقة، وجد القطاع الزراعي نفسه في مرحلة دقيقة، تشابكت فيها التحديات مع الفرص، ومع تصاعد المخاطر في وقت سابق، كانت هناك مخاوف حقيقية من ارتفاع تكلفة تمويل المشروعات الزراعية الكبرى، ما دفع الدكتور يسري الشرقاوي، رئيس جمعية رجال الأعمال المصريين الأفارقة، إلى التحذير حينها من تداعيات محتملة لا على القطاع الزراعي فحسب، بل على مجمل النشاط الاقتصادي في البلاد.
وأوضح الشرقاوي أن تلك الفترة شهدت ارتفاعًا في منسوب المخاطر بشكل كان كفيلاً بدفع البنوك والمؤسسات التمويلية إلى رفع معدلات الفائدة على الإقراض، الأمر الذي هدد بتعطيل مسارات الإنتاج في كل من الزراعة والصناعة، وكان من شأن هذا الواقع أن يشكل ضغطًا حقيقيًا على معدلات النمو الاقتصادي، ويتسرب تأثيره تدريجيًا ليصيب الاقتصاد الكلي والجزئي، وينعكس في نهاية المطاف على المواطن العادي، سواء أكان موظفًا في القطاع الحكومي، أو عاملًا في القطاع الخاص، أو من أصحاب الأعمال الصغيرة.
لكن مع تراجع حدة التوترات ووقف العمليات العسكرية في عدد من بؤر الصراع، بدأت الأوضاع في الاستقرار، وهو ما وفر فرصة جديدة أمام الدولة المصرية لإعادة ترتيب أولوياتها الزراعية والاقتصادية على أسس أكثر استدامة، وفي خضم هذه الصورة القاتمة، لم تغب عن المشهد ملامح القلق على مستقبل الأسواق الخارجية، خاصة تلك التي لطالما شكلت وجهات واعدة للمنتجات المصرية.
ولفت الدكتور يسري الشرقاوي إلى أن قطاع السياحة، على سبيل المثال، كان سيتأثر سلبًا إذا ما استمر التصاعد في المخاطر دون تدخل سريع ومدروس، وهو ما كان سيُفقد مصر أحد روافدها الاقتصادية الحيوية في وقت حرج، لكن بصيص الأمل لم يتأخر، فقد تدخلت الدولة المصرية، وتحديدًا تحت إشراف مباشر من الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، لتنفيذ توجيهات القيادة السياسية برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتضمنت هذه التوجيهات تكليف الوزراء المعنيين بتشكيل لجان متخصصة لمواجهة الأزمات ودراسة تداعيات المتغيرات الإقليمية والدولية، كل في نطاق مسؤوليته، بما يضمن تفادي انعكاسات الأزمات العالمية على الداخل المصري.
دعم قدرة الحكومة على اتخاذ خطوات أكثر جرأة وفاعلية
وأكد أن جاءت تلك التحركات في توقيت بالغ الأهمية، إذ بدأت الأوضاع الإقليمية والدولية تشهد قدرًا من التهدئة، مع توقف العمليات العسكرية في عدد من مناطق النزاع، مما أتاح للدولة هامشًا أوسع لإعادة التوازن الاقتصادي ومراجعة مسارات العمل، خاصة في القطاعات الحيوية مثل الزراعة، وكان لهذا الاستقرار أثرٌ مباشر في دعم قدرة الحكومة على اتخاذ خطوات أكثر جرأة وفاعلية في إعادة هيكلة سلاسل الإمداد، وتنويع مصادر الاستيراد، وتعزيز الإنتاج المحلي.
تأمين احتياجات البلاد من مستلزمات العملية الزراعية
وتابع وضمن هذا الإطار، اتخذت وزارة الزراعة خطوات فعلية وجادة، كان أبرزها التحرك نحو البحث عن مصادر بديلة لاستيراد السلع الاستراتيجية، بهدف تأمين احتياجات البلاد من مستلزمات العملية الزراعية، وتوسيع قاعدة الدول التي يمكن الاستيراد منها، لضمان مرونة واستقرار منظومة الأمن الغذائي المصري، دون أن تظل رهينة لتقلبات الأسواق الدولية أو الأزمات الجيوسياسية المفاجئة.
وأكد الشرقاوي أن هذا التحرك الاستباقي لم يعد مجرد خيار، بل ضرورة ملحّة تفرضها التحديات المستمرة في عالم لا يعرف الاستقرار طويل الأمد، وشدد على أن تنويع مصادر الاستيراد يمثل الآن خط الدفاع الأول، بالتوازي مع رفع معدلات الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية وعلى رأسها اللحوم، والقمح، والزيوت بأنواعها، وذلك لتقليل الاعتماد على الخارج وتعزيز القدرة الوطنية على الصمود في وجه أي صدمات مستقبلية، مهما كان نوعها أو مصدرها.
ورأى الشرقاوي أن العالم، رغم ما مرّ به، لا يزال يزخر بالبدائل، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، شريطة التحرك الذكي بعيدًا عن المناطق المشتعلة بالصراعات، لكنه لم يكتف بالدعوة إلى البحث عن بدائل مرحلية، بل طرح رؤية متكاملة لما وصفه بـ”الفرصة الاستراتيجية”، وهي التوجه الجاد نحو القارة الأفريقية، التي وصفها بأنها تحمل كنوزًا غير مستغلة في مجال الزراعة، وفرصًا استثمارية قد تغيّر ملامح الأمن الغذائي في المنطقة بأسرها.
فأفريقيا، كما وصفها، قارة شابة يتجاوز عدد سكانها مليار وثلاثمئة مليون نسمة، بينهم نحو 65% من فئة الشباب، وتتمتع بوفرة هائلة في الأراضي القابلة للزراعة، حيث تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 60% من أراضيها يمكن استصلاحها ودمجها في منظومة الإنتاج الزراعي العالمي، يضاف إلى ذلك وفرة في الأيدي العاملة، وتزايد الحاجة إلى التكنولوجيا الزراعية الحديثة، وأنظمة الري الذكي، وكل مقومات التحول الزراعي الناجح والمستدام.
تأسيس شراكات زراعية استراتيجية مع دول القارة السمراء
من هنا، يرى الشرقاوي أن الوقت قد حان لتأسيس شراكات زراعية استراتيجية مع دول القارة السمراء، على أسس من المصالح المتبادلة والتنمية المشتركة، مؤكدًا أن مصر قادرة على لعب دور محوري في هذا الاتجاه، سواء من خلال شركات القطاع الخاص، أو عبر آليات التعاون الحكومي متعدد الأطراف، واعتبر أن المضي قدمًا في هذا الاتجاه لن يسهم فقط في تعزيز الأمن الغذائي الوطني، بل سيمثل ركيزة محورية من ركائز السياسة الخارجية الاقتصادية المصرية، ويعزز من مكانة مصر في القارة التي تنتمي إليها جغرافيًا وثقافيًا.
وفي ختام تصريحاته، دعا الدكتور يسري الشرقاوي إلى ضرورة تبني هذه الرؤية ضمن الاستراتيجيات الوطنية طويلة المدى، بحيث تصبح جزءًا من عقيدة الدولة في إدارة ملف الأمن الغذائي، لا بوصفها رد فعل طارئًا، بل كخطة ممنهجة قائمة على استشراف المستقبل، مؤكدًا أن التحرك اليوم قد يجنب البلاد أثمانًا باهظة في المستقبل، ويحول التحديات إلى فرص حقيقية للنمو والشراكة والتكامل في قلب أفريقيا.