
ضعف النقل والتسويق يهدر 6 ملايين طن محاصيل زراعية سنويًا
رغم الطفرات المتلاحقة التي يشهدها القطاع الزراعي في مصر من حيث التوسع الأفقي والرأسي، والاهتمام المتزايد بالإنتاج وتحسين جودة المحاصيل، إلا أن ملف التسويق الزراعي لا يزال الحلقة الأضعف في السلسلة، ما يجعل كل ما يُنجز فى الأراضى عرضة للهدر أو الخسارة، فعلى مدار سنوات، ظل الفلاح المصري يواجه تحديات ما بعد الحصاد بمفرده، وسط غياب جهة رسمية واضحة تتدخل لضبط السوق أو شراء المحصول بالسعر العادل.
ولا يقتصر تأثير ضعف منظومة التسويق على الفلاح فقط، بل يمتد إلى السوق المحلية والمستهلك، حيث تؤدي الفوضى السعرية والعرض العشوائي إلى تقلبات حادة في أسعار السلع الغذائية، وإهدار كميات ضخمة من المحاصيل القابلة للتلف، غياب التخطيط التسويقي المسبق، وترك المزارع فريسة للوسطاء، وغياب التنسيق بين الوزارات المعنية، كلها عوامل صنعت واقعًا مرتبكًا، يجعل الزراعة المصرية رهينة للمصادفة والمضاربة لا للرؤية والعلم.
وباتت هذه الأزمة تتجلى بوضوح مع كل موسم حصاد، حيث تتكرر مشاهد المزارعين الذين يتكدس محصولهم في المخازن أو يباع بأبخس الأسعار، في ظل صمت حكومي غير مبرر، يعكس تغيبًا مؤسسيًا عن ملف يُعد من ركائز الأمن الغذائي، ورغم تحذيرات متكررة من الخبراء والمزارعين، لم تتحرك الحكومة حتى الآن بخطة متكاملة تعالج جذور الأزمة، وهو ما دفع نوابًا بالبرلمان لطرق أبواب المساءلة.
في هذا السياق، أكد النائب السيد شمس الدين، أن أزمة التسويق أدت إلى تكدس كميات كبيرة من المحاصيل لدى المزارعين، في غياب أي جهة رسمية تستلمها بأسعار منصفة، ما مكن التجار من فرض أسعار عشوائية تحقق لهم أرباحًا ضخمة، بينما يتحمل الفلاح وحده خسائر الزراعة.
وأشار إلى أن غياب التنسيق بين الوزارات المعنية أدى إلى سوء تخطيط زراعي، وعزوف فلاحين عن زراعة محاصيل معينة، بعدما تكبدوا خسائر في مواسم سابقة، لعدم وجود ضمانات لتسويق المحصول.
وطالب النائب بضرورة تحديد تسعيرة استرشادية مُلزمة للمحاصيل الرئيسية قبل بداية الموسم الزراعي، تنفيذًا لتكليفات الرئيس، مع تفعيل دور الجمعيات الزراعية في استلام وتسويق المحاصيل، وتوسيع دور وزارة التموين في الشراء المباشر من الفلاحين بأسعار عادلة تدعم تكوين المخزون الاستراتيجي.
ولم يغفل النائب جانبًا آخر من الأزمة، مشيرًا إلى غياب الأسمدة المدعمة من الجمعيات الزراعية، وبيعها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، في ظل غياب الرقابة واحتكار البعض لها، وطالب بتشديد الرقابة على التوزيع وتفعيل القانون لضمان حصول المزارعين على مستلزماتهم الأساسية بأسعار مناسبة تُمكّنهم من الاستمرار في الزراعة.
في المقابل، أعلنت وزارة الزراعة عن بدء تطبيق منظومة تسويق زراعي جديدة تهدف إلى كسر حلقة الوسطاء وضمان وصول المنتج للمستهلك بسعر عادل، مع تحقيق هامش ربح مناسب للفلاح، وكشف المهندس محمود عطا، رئيس الإدارة المركزية للبساتين بوزارة الزراعة، أن المنظومة بدأت بالفعل في محافظتي الشرقية والإسماعيلية، ويتم حاليًا تطبيقها في الإسكندرية والدقهلية، على أن تتوسع تدريجيًا لباقي المحافظات.
وأكد عطا أن تعدد الحلقات الوسيطة بين المزارع والمستهلك هو السبب الرئيسي في خسارة الفلاح وارتفاع الأسعار، وأن المنظومة الجديدة تستهدف القضاء على هذه الحلقات، وتحقيق التوازن المطلوب في السوق الزراعي.
تتضمن خطة الوزارة أن تقوم مديريات الزراعة في مختلف المحافظات بشراء المحاصيل، خاصة الخضروات، من المزارعين مباشرة، وطرحها في منافذها الرسمية بأسعار حقيقية، مع دفع ثمن المحصول للفلاح نقدًا دون تأخير.
وتعكف الإدارة المركزية للبساتين حاليًا على دراسة قائمة تشمل 48 محصولًا رئيسيًا يمكن تسويقها مباشرة من الحقل إلى المنفذ، تشمل: البطاطس، البطاطا، القلقاس، الخرشوف، الثوم، الفلفل، الطماطم، الخيار، الكرنب، القرنبيط، البسلة، الفاصوليا، الباذنجان، الجزر، والسبانخ، وغيرها من محاصيل العروات المختلفة.
شكاوى المزارعين
وفي ظل التحركات البرلمانية والحكومية، تتردد من قلب القرى الزراعية شكاوى لا تنقطع من مزارعين عاشوا مرارة المواسم الخاسرة، ففي الدقهلية والبحيرة وبني سويف، تُروى قصص يومية لفلاحين زرعوا الطماطم والبصل والبطاطس، ولم يجدوا مشترين لمحاصيلهم، أو اضطروا لبيعها بأسعار زهيدة بينما تُباع في السوق بأضعاف مضاعفة.
الأرقام الرسمية تُعزز من هذه الشهادات؛ فوفقًا لقطاع الشؤون الاقتصادية بوزارة الزراعة، يبلغ إجمالي إنتاج مصر من المحاصيل البستانية أكثر من 24 مليون طن سنويًا، تُهدر نسبة كبيرة منها بسبب ضعف منظومات التسويق والنقل.
وتُظهر تقديرات المعهد القومي للتخطيط الزراعي أن ما لا يقل عن ربع هذا الإنتاج نحو 6 ملايين طن يتعرض للتلف أو يُباع بخسائر، نتيجة غياب سلاسل تبريد منظمة، وضعف مراكز الفرز والتعبئة، وتكدس الأسواق خلال مواسم الذروة.
ارتفاع صادرات مصر الزراعية
ورغم أن الصادرات الزراعية المصرية سجلت طفرة في عام 2024، متجاوزة 7.5 مليون طن بقيمة 4.2 مليار دولار، إلا أن هذا الإنجاز يخدم كبار المنتجين والمصدرين ممن يمتلكون أدوات التسويق الحديثة، بينما يظل صغار الفلاحين خارج منظومة التصدير أو التصنيع الغذائي، محرومين من القيمة الحقيقية لمحاصيلهم.
بين حراك برلماني ومطالب الفلاحين وتحرك حكومي محدود، تبقى منظومة تسويق المحاصيل الزراعية أمام مفترق طرق حاسم: إما أن تتحول إلى أداة فاعلة لحماية المزارع وتوفير الغذاء بسعر عادل، أو أن تظل ثغرة مزمنة تهدد استدامة الزراعة المصرية، وتُبقي الفلاح عالقًا في دوامة الخسارة الموسمية، بلا أمل في المكسب أو الاستمرار