
كيف تقود الزراعة “الذكية معركة” الاكتفاء الذاتي في مصر؟
في ظل التحديات العالمية المتسارعة، من تغيرات مناخية حادة، وندرة في الموارد الطبيعية، واضطرابات في سلاسل الإمداد الغذائي، تبرز التكنولوجيا كطوق نجاة رئيسي للزراعة، خاصة في دول تسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي وسط ضغوط سكانية واقتصادية متزايدة، وفي قلب هذه الثورة الزراعية الجديدة، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة تحولية لا تعيد فقط تعريف طرق الزراعة، بل تعيد أيضًا توزيع أدوار الفاعلين داخل المنظومة، من الفلاح الصغير إلى صناع القرار.
تُعيد التقنيات الذكية رسم خريطة الزراعة المصرية من الجذور، بدءًا من تحليل التربة والتنبؤ بالإنتاج، مرورًا بالري الدقيق ورصد المحاصيل بالطائرات، وانتهاءً بالتسويق والتوزيع الذكي للمنتجات، وبينما تخوض الدولة معركة طويلة لتحقيق الأمن الغذائي وتقليل فجوة الاستيراد، تطرح التحولات الرقمية في الحقول سؤالًا جوهريًا: هل باتت الخوارزميات أداة دفاع وطني لا تقل أهمية عن شبكات الري والمبيدات والأسمدة؟
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه القطاع الزراعي على مستوى العالم، ومن بينها التغيرات المناخية، ونُدرة المياه، وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج، أصبح اللجوء إلى التكنولوجيا الحديثة ضرورة لا رفاهية، ويأتي الذكاء الاصطناعي على رأس هذه الأدوات التي بدأت بالفعل تُحدث نقلة نوعية في كيفية إدارة الزراعة وتحسين الإنتاجية وخفض الفاقد وضمان استدامة الموارد.
وفي مصر، ومع اتساع رقعة المشروعات الزراعية الكبرى مثل الدلتا الجديدة وتوشكى ومستقبل مصر، أصبحت الحاجة إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي أكثر إلحاحًا لتعظيم العائد من وحدة الأرض والمياه، وتحسين القدرة على التعامل مع التحديات المناخية، وتحقيق الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
الذكاء الاصطناعي لتحسين كفاءة الإنتاج والتخطيط الزراعي
يساعد الذكاء الاصطناعي المزارعين وصناع القرار على اتخاذ قرارات أكثر دقة في تحديد مواعيد الزراعة والحصاد، واختيار أنواع المحاصيل الأنسب لكل منطقة جغرافية بناءً على تحليل بيانات التربة والمناخ. وتُظهر التطبيقات الذكية قدرتها على تقديم تنبؤات بالإنتاجية المتوقعة، ما يساعد في إدارة الموارد بشكل استباقي وتخطيط سلاسل الإمداد بشكل أكثر كفاءة.
ري ذكي.. وتسميد حسب الحاجة
واحدة من أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الزراعة هي الإدارة الذكية للموارد، خصوصًا المياه والأسمدة. فبفضل الحساسات المتصلة بتحليلات الذكاء الاصطناعي، يمكن مراقبة رطوبة التربة بشكل لحظي، وتحديد الكمية الدقيقة من المياه التي تحتاجها النباتات، ما يسهم في ترشيد استهلاك المياه وتقليل الهدر، كذلك تُستخدم الخوارزميات في تحديد الجرعة المثلى من الأسمدة والمبيدات بناءً على الحالة الصحية لكل منطقة من الحقل.
طائرات ذكية تراقب الحقول
لم تعد مراقبة المحاصيل تتم بالعين المجردة فقط، بل أصبح بالإمكان استخدام الطائرات المُسيّرة (Drones) المزودة بكاميرات حرارية وأجهزة استشعار لتحليل نمو النباتات، وتحديد المناطق المصابة أو التي تحتاج إلى تدخل عاجل. هذه البيانات الدقيقة تُحول إلى خرائط حرارية تساعد المزارعين على اتخاذ إجراءات سريعة للوقاية أو العلاج، ما يقلل من الخسائر ويرفع جودة المحصول.
بيانات ضخمة وتحليلات استباقية
من خلال تحليل البيانات المناخية والبيئية على مدار سنوات، يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بالمخاطر الزراعية مثل فترات الجفاف، أو احتمالية ظهور آفات معينة في توقيتات محددة، هذه القدرة على التنبؤ تمكّن الأجهزة المعنية من التحرك مبكرًا، ووضع خطط استجابة فاعلة، وهو ما ينعكس إيجابًا على استقرار السوق المحلي ومنع اضطرابات الأسعار.
تسويق ذكي وربط مباشر بين المزارع والمستهلك
يتجاوز دور الذكاء الاصطناعي مرحلة الإنتاج، ليصل إلى التسويق والإمداد، حيث تتيح التطبيقات الذكية تتبع مسار المنتج من الحقل إلى المستهلك، مما يعزز من شفافية السوق ويحمي جودة المنتجات. كما تساعد هذه الأنظمة في ضبط الكميات المطروحة وتقليل الفاقد، وتوفير قاعدة بيانات لتحديد حجم الطلب والعرض بدقة، وبالتالي تجنب الاختناقات أو الفوائض غير المستغلة.
تمكين صغار المزارعين وتحسين دخولهم
من الفوائد المهمة للذكاء الاصطناعي أيضًا أنه يتيح لصغار المزارعين الوصول إلى أدوات تحليل متقدمة عبر تطبيقات بسيطة على الهاتف المحمول، تُرشدهم إلى أفضل ممارسات الزراعة والري والتسميد، وتمنحهم فرصة المنافسة وتحقيق إنتاج بجودة أعلى بتكلفة أقل، كما تسهم هذه الأدوات في ربطهم مباشرةً بالأسواق دون وسطاء، ما يُحسن من دخلهم ويعزز من استقرارهم الاقتصادي.
استدامة الإنتاج وتحقيق الأمن الغذائي
في ظل ازدياد التحديات العالمية التي تهدد سلاسل الغذاء، يُعد الذكاء الاصطناعي أحد المحاور الرئيسية لتحقيق الأمن الغذائي من خلال ضمان استقرار الإنتاج وتحسين الكفاءة وتقليل الاعتماد على الاستيراد، كما يساعد في دعم الخطط الوطنية للتوسع الزراعي الأفقي والرأسي، وتحقيق التوازن بين الوفرة والجودة والأسعار.
مقارنة: الزراعة التقليدية والزراعة الذكية
تشير التجارب الدولية والمحلية إلى أن اعتماد الذكاء الاصطناعي في الزراعة أدى إلى:
زيادة الإنتاج بنسبة تصل إلى 20-30% في بعض المحاصيل.
خفض استهلاك المياه بنسبة 30-50% باستخدام أنظمة الري الذكية.
تقليل الفاقد في الإنتاج بنسبة قد تصل إلى 25% نتيجة الكشف المبكر عن الأمراض والآفات.
تحسين جودة المحاصيل وزيادة فرص التصدير بسبب تقنيات المتابعة الدقيقة والمعايير الموحدة.
في المقابل، تعتمد الزراعة التقليدية على الخبرة البشرية فقط، دون بيانات تحليلية أو أدوات تنبؤ دقيقة، مما يرفع نسب الخطأ ويزيد من الفاقد ويُعرض الإنتاج لمخاطر مفاجئة.
خبير: الذكاء الاصطناعي أصبح ضرورة زراعية وليس رفاهية
وفي تعليقه لـ”عالم المال”، قال الدكتور هشام عبد الحميد، أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة الزقازيق، إن دخول الذكاء الاصطناعي في الزراعة لم يعد خيارًا بل ضرورة وطنية لضمان استدامة الموارد الغذائية، مضيفًا أن مصر تمتلك الآن فرصة ذهبية لتوطين هذه التكنولوجيا بالتوازي مع مشروعات التوسع الزراعي، خاصة في ظل وجود قاعدة بيانات قوية أتاحتها منظومة الحيازة الزراعية الذكية “كارت الفلاح”، إلى جانب مشروعات التحول الرقمي في وزارة الزراعة.
وأكد عبد الحميد أن الدولة إذا ما دعمت هذه التوجهات باستثمارات محلية وشراكات مع شركات تكنولوجيا زراعية، فسنشهد طفرة كبيرة في الإنتاج والصادرات خلال السنوات المقبلة، فضلًا عن تحسن دخول صغار المزارعين وتقليص الفجوة الغذائية تدريجيًا.