أعشق، بين الفينة والأخرى، أن أنفُضَ غطاءَ الزمنِ الغابرِ عن واقعنا العربي القاتم، تَنتَشِرُ حبَّات الغبار في الأجواء، وتَنتَثِرُ رائحة الرطوبة الثقيلة، تصعُبُ الرؤية على الجميع في مثل هذا الموقف، لأنَّ العيون تمتَلِئُ بقذى مؤلمٍ.
على عكس الجميع، أرىْ جيداً من خلال هذا الهواء المُغبَرِّ، وأَعرِفُ تماماً ما تعنيه رائحة التاريخ، واصفرار الصفحات.. أرىْ من بين قصاصات الورق ما بيَّتَهُ لنا العمر الطويل الذي قد مضى على وطننا العربي.
مؤخَّراً، احتدَّ النقاش بيني وبين أحد الأشخاص الذين لا يملُّون امتطاء صهوةِ المعرفة بلا فكرٍ ولا اتِّزانٍ، فيترنَّح على أمواجٍ من المفاجآت خلال الحديث، تتلاطم أمواجُهُ في عنادٍ غريبٍ على الرأي.
قال لي أنَّ: “الاقتصاد العربي قويٌّ ومتماسكٌ، حتى أنَّه مستقلٌّ عن أية مؤثِّراتٍ أجنبيةٍ في الوقت الحالي، فهو قادرٌ على تجاوز أزمة كورونا بسرعة، وسيُحقِّق قفزاتٍ هائلةٍ مع نهاية عشرية 2020”.
حيث يعتقد أغلب الناس أنَّ الاقتصاد هو عبارةٌ عن أموالٍ تجيء وترتحلُ بين حسابات البنوك، ومجموعةٌ من المصانع والمتاجر والشركات، فإذا وجدوا كلَّ هذه العناصر تعمل، فإنَّنا بخير، ليس هذا فقط، بل إنَّ لنا أن نحلم برغدِ العيش، وأندلسيةِ الرؤى! لم يكنْ لديَّ سوى أن أقول له بمرارةٍ كبيرةٍ شعرتُ بها في حلقي: “يكفي أنَّنا ننتظر اليوم العلماء الأجانب حتى يُحضِّروا لنا السمَّ!”..
مرَّت ثوانٍ من الصمت المُتوتِّر، ثم أجاب: “أليس هو اللقاح المنتظر؟!”، فقلتُ أنا: “لقاحٌ لمرضٍ فيروسيٍّ.. وسمٌّ لجسدٍ عربيٍّ متهالكٍ، ننتَظِرُهم حتى يجلبوا لنا اللقاح بالسعر الذي يُحدِّدونه لنا وفي الوقت الذي يختارونه… بئس الحياة هذه بعد دخول هذا السمِّ في أجسادنا!!”.
الحقيقة، أنَّ الاقتصاد هو عبارةٌ عن كيانٍ واسعٍ ومرنٍ جداً يشمل كلَّ نشاط الناس في مجتمعٍ مُعيَّنٍ، ويدخل كل بيت، ويظهر من كلِّ نافذة، فإذا استقرَّت منظومة النشاط الإنساني بكامل عناصرها، عندها فقط تبدأ كفاءة الاقتصاد بالظهور، وترتفع قيمته. أي أنَّ قيادة دفَّة الاقتصاد يجب أن تبدأ من جذور المجتمع، من حيث بيئة التربية، جودة التعليم، وثقافة العمل، وأخلاقيات الابتكار، واحترام الكفاءات، وشحذ همم الباحثين.. وغيرها الكثير والكثير من المستحيلات في ووطننا العربي التي ظهرت بشكلٍ مأساويٍّ خلال السباق العلمي والمالي إلى لقاح فيروس كوفيد-19.
لا يمكن للاقتصاد العربي أن يكون قوياً ومتماسكاً إذا لم يكنْ ابتكارياً متجدِّداً، والأهمُّ متنوعاً وتنافسياً وأخلاقياً ومُستَشرِفَاً. لماذا نلجأُ في كلِّ أزمة تعصف بنا اليوم إلى الخبرات الأجنبية؛ ببساطةٍ بسبب تركيز الدول العربية على مناهج تعليمٍ نظريةٍ بحتةٍ، ومنظومة عملٍ تقليديةٍ روتينيةٍ باليةٍ انتهت صلاحيَّتها منذ الثمانينيات.
وإذا رجعنا إلى الوراء، فلم تكنْ الدول العربية على امتداد تاريخها بهذا التراخي الحضاري والاستسلام المعرفي والإذعان الاقتصادي، فهل تغيَّرت جينات الشعب العربي؟ أم إنَّ التوازنات الاقتصادية الدولية قد تجاوزتنا بسنواتٍ ضوئيةٍ منذ عشرات بل مئات السنين؟ يبدو لي أنَّ الإنسان العربي أصبح يعاني من أزمتَيْن، هما سبب تأخُّر الاقتصاد العربي: # الفكر الفردي، وهي أزمةٌ ذاتيةٌ انتشرت بين بعض الفئات العربية؛ حيث أصبح كلُّ شخصٍ أو مجتمعٍ عربيٍّ ضيِّقٍ يسعى مُتهالِكَاً وراء مصلحته الاقتصادية الشخصية الضيقة الأنانية دون حرجٍ أو حياءٍ، ضارباً عرض الحائط بمصلحة مجتمعه العربي الكبير؛ هذه الأزمة الذاتية هي التي شكَّلت تياراً اجتماعياً من العلماء والمفكرين العرب المُستَسلِمِينَ الهادفِينَ إلى تغيير انتمائهم وهويَّتهم وترك قضاياهم ومُقدَّساتهم، ثم الهرولة وراء البهرج الغربي الطامع لإعادة برمجة عقولهم في اتجاهٍ معادٍ لحضارتهم، تحت شعاراتٍ مضللةٍ مثل التعاون والانفتاح والسلام، بينما تكون الحقيقة هي الخضوع والابتلاع والاستسلام. هذا الفكر الفردي المُستَسلِم هو أغبى فكرٍ مرَّ على تاريخ الحضارة العربية، لم تشهدْه هذه الأمة في السابق، والسبب هو وصول الواقع الاقتصادي من السوء أو التبعية درجة الحضيض في بعض المجتمعات العربية المُستَسلِمَة، هذا إلى جانب تحضير أعداء حضارتنا لمثل هذا المنقلب الاجتماعي الكارثي عبر حقن المجتمعات بثقافة الاستهلاك ومحبَّة الذات الفارغة إلى درجة الشلل القيمي والعقائدي.
# الفكر الطارد؛ وهي أزمةٌ خارجيةٌ عن الإنسان العربي، تسبَّبت بها بعض المنظومات الإدارية الفاسدة التي أحاطت بمعظم مؤسَّسات العمل الاقتصادي في الدول العربية، فأصبح الإنسان العربي المنتمي لبلده ومجتمعه وهويَّته تحت الضغط الدائم من فئاتٍ تسعى بأيِّ شكلٍ إلى طرده من منظومة العمل؛ حتى لا تنكسر دوائر الفساد المُغلَقَة على نفسها.
بالتالي، فقد أصبح الإنسان العربي بين فكَّي كمَّاشة؛ الفكر الفردي الأناني من جهة، والفكر الطارد الفاسد من جهة أخرى.
وكانت النتيجة، أنَّ العرب اليوم يُشمِّرون عن أكمامهم بانتظار اللقاح، بلا أيِّ شعورٍ بالذنب تجاه الأسلاف الذين وضعوا أساس العلوم الطبية وأمسكوا بزمام حركة الاقتصاد والمال وطرق التجارة العالمية.
بِئسَ اللقاح هو ذاك الذي يأتي نتيجة تدهورٍ اقتصاديٍّ واستسلامٍ فكريٍّ وغيابٍ حضاريٍّ مطبقٍ.. أليس هو ذاك السم الذي كان نتيجة الحاجة وبعد الإلحاح بالطلب والانتظار؟!
بقلم: د. همام القوصي (دكتوراه بالقانون التجاري تخصص قانون وأنظمة بورصة الأوراق المالية)