• logo ads 2

همام القوصي يكتب.. “تحويل الأزمة الأوكرانية إلى فرصة اقتصادية عربية”

استمع للمقال

آخر ما كان ينتظر الاقتصاد الدولي المُتَرَنِّح أساساً بسبب أزمة كوفيد-19 هو الأزمة الأوكرانية، فالمؤشِّرات الاقتصادية كانت مظلمةً منذ بداية عام 2020، ثم أصبَحنَا نعيشُ في حلبة صراعٍ اقتصاديٍّ مباشرٍ ومفتوحٍ بين الشرق والغرب.

اعلان البريد 19نوفمبر

وأخطر ما يمكن ملاحَظَتُهُ من الواقع الدولي، هو أنَّ الأزمة الاقتصادية تتَّجه نحو التعمُّق بالاتِّجاه الأكثر سوءاً، كالتالي:

أولاً: انتقلت دورة الأزمة الاقتصادية وفق المراحل المعروفة من التباطؤ إلى الانكماش إلى الكساد، وقد رافق الأزمة حالةً مخيفةً من التضخُّم العالمي للسلع والخدمات.
ثانياً: انتقلت الأزمة في دول الصراع من القطاع المالي -المتمثِّل بالأسهم والأوراق المالية ومؤشِّرات البورصات-، إلى سلع الدول المتَصَارِعَة كالغاز والنفط والحبوب والغذاء؛ وهكذا انتقلت الأزمة من القطاع المالي إلى الاقتصاد الحقيقي الذي يُؤثِّر في معيشة الأفراد من أعلى طبقة حتى أدناها.
ثالثاً: تحوَّل أثر الأزمة من مرحلة السلع والخدمات التي تُقَدِّمُهَا أو تَستَورِدُهَا دول الأزمة الأوكرانية، إلى القطاعات المالية العالمية جميعها، ثم إلى الاقتصاد العالمي الحقيقي؛ وهكذا تأثَّرت المصانع والمعامِل والمزارع حول العالم بالتضخُّم.
رابعاً بدأ أثر الأزمة يَطَالُ القيم الأساسية العقارية، وهو أخطر مرحلة يمكن لأية أزمةٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ عالميةٍ أن تَصِلَ إليها، لأنَّ تضخُّم أسعار العقارات ثم انخفاضها فجأة سيؤدِّي إلى انخفاض في الضمان الذي يُقدِّمُهُ العقار في مقابل القروض وشتَّى صيغ التمويل، إضافةً إلى خسائرٍ جسيمةٍ لكبار المستثمرين الذين يُديرُونَ محافظاً عقاريةً ضخمةً.
والمشكلة على الصعيد العقاري أن بعض الدول قد بالغت في تفاؤلها، وسمحت باستثمارات عقارية خيالية من حيث المساحة والقيم، وصلت إلى حدِّ بناء مدنٍ جديدةٍ، وهذا ما أدَّى إلى اختلالٍ بين العرض الكبير والطلب الضعيف في ظلِّ أزمةٍ ماليةٍ تَدفَعُ الناس للحرص على أموالهم، وشراء الحاجات الأساسية فقط.

وهنا نتساءل عن موقع الوطن العربي من هذه الأزمة التي تزداد اتِّساعاً من حيث نطاقِهَا الجغرافي، وعُمقَاً من حيث أثرِهَا المالي والاقتصادي..

في الواقع، منذ أن انتهى الوجود الاستعماري تارِكَاً وراءَهُ قروناً من التهميش والدمار الإنساني والحضاري والضعف والتبعية الاقتصادية، فلم تعدْ الدول العربية طَرَفَاً فعلياً في أية معادلةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ، بل أصبَحَ الثقل الاقتصادي العربي يَتَمَحوَرُ داخلياً في القدرة على تثبيت أسعار السلع المعيشية والدعم الحكومي، وخارجياً في الدخول ضمن جبهاتٍ اقتصاديةٍ تَخدِمُ المصالح العربية؛ مثل العمل العربي المشترك والاتفاقيات مع الدول النامية التي ذاقَتْ من مرارة نفس الكأس.

هذا الواقع قد جَعَلَ اقتصاد أية دولةٍ عربيةٍ اقتصاداً ناقصاً مبتوراً، فهو إن استطاع تأمين المستوردات بالقطع الأجنبي، فلن يستطيعَ موازَنَتِهَا بقيمة الصادرات الضئيل، ولن يستطيعَ التوسُّع عالمياً إلاَّ على شكل ربطٍ ماليٍّ واقتصاديٍّ كاملٍ أشبه بالابتلاع أو عن طريق الغرق في الديون الدولية.

وهكذا، باتت الاقتصاديات العربية أشبه بالرداء المُهتَرِئ المُرَقَّع الذي يحتاج إلى استبدالٍ من حيث الفكر والمنهج والتوجُّه.

يدلُّ على هذا الواقع ما رأيناه من فشل معظم مشاريع الإصلاح الاقتصادي التي انتهجَتهَا الدول العربية تحت مِظلَّة أحلام ورؤى أتت عليها العشرية السوداء منذ 2011 بشكل شبه نهائي.

أمَّا بالنسبة لدول الخليج العربي، فهي قد نجحت بالنمو بفضل الصادرات النفطية، لكنَّها لم تصلْ إلى مستوى الطموح في التنمية البشرية، كما أنَّها لم تُحقِّق التكامل الخليجي الفعلي، حتى أنَّها لم تُصدِر عملةً موحَّدةً من الجانب المالي، ولم تستطعْ بناء سوقٍ مشتركةٍ ذات منهجٍ اقتصاديٍّ وضريبيٍّ واحدٍ، كل هذا بعد مرور أكثر من 60 عام على اكتشاف النفط وتصديره، وعلى الرغم من وحدة الهوية الثقافية والتلاحم في الجغرافيا والمصير.
فماذا يَنتَظِرُ السفينة العربية بعد استعار الأزمة الأوكرانية اقتصادياً؟
هل المزيد من أمواج الأزمات المتَلَاطِمَةِ، ومزيداً من الانحسار والتخبُّط في الدور التنموي؟

يبدو أنَّ الدول العربية ينتَظِرُهَا امتحانٌ إداريٌّ ومنهجيٌّ مصيريٌّ في الأشهر القادمة، وهو امتحانٌ في جودة إدارة الأزمة أكثر منه جودة تحريك الاقتصاد.
فالاقتصاد الدولي يَنزِفُ لكنَّه ما زال يَنبِضُ؛ فما زال يمكن تحريك دفَّة الاقتصاد نحو منهج التوسُّع والاستفادة من الفرص التي قد تُقدِّمُهَا الأزمة، ليس بشكلٍ مُؤقتٍ، بل البناء عليها لتشكيل توافقاتٍ ومَدِّ شرايينٍ اقتصاديةٍ دائمةٍ مع مرور الوقت.

الحقيقة، أنَّ على الدول العربية تحديد اتِّجاه مصلحَتِهَا بشكلٍ واضحٍ قبل أن تَستَعِرَ الأزمة الأوكرانية اقتصادياً، وتحتدُّ مُواجَهَاتُهَا ويَزدَادُ عُمْقُ أثَرِهَا، عندها ستتحوَّل الموارد الاقتصادية سِلاحَاً مَاضِياً في يَدِ كلِّ طرفٍ، ولن يكون من السهل الخروج بموقفٍ رماديٍّ أو تجاوز الأزمة دون خسائر.

لذا، فمن الممكن للدول العربية القيام بما يلي:

أولاً: بناء جسور الثقة مع فرص تبادل السلع والخدمات الدولية التي تَحتَاجُ إلى أسواقٍ غير الأسواق المتنازِعَة معها؛ وهكذا سيزداد تصدير الدول العربية لسلعٍ عربيةِ المنشأ أو عربيةِ الترخيص حتى تأخُذَ مكان منتجات دولٍ أخرى.

(1) فمن الجانب الصناعي، يمكن للسلع العربية أن تأخذ حصةً سوقيةً في دول الشرق، فهي لا تَطلُبُ معايير كماليةً كما في الغرب، كما أنَّ دول الشرق الصناعية ستَحتَاجُ إلى حاضناتٍ صناعيةٍ ضخمةٍ بدل الأوروبية وأيدي عاملةٍ موجودةٍ في الدول العربية.

(2) ومن الجانب التجاري، يمكن اشتراط تأسيس فرعٍ جديدٍ حتى يأخُذَ جنسية دولةٍ عربيةٍ لأيةِ شركةٍ أجنبيةٍ تَرغَبُ بالاستثمار الصناعي في الدول العربية؛ بغَرَضِ تحقيقِ مكسبٍ ماديٍّ من اعتبار السلع الخارجة من الفرع العربي تَصديراً للسلع، ومكسبٍ معنويٍّ في رفع سمعة السوق الصناعي العربي ونَقلِهَا إلى المستوى العالمي.

(3) أمَّا من جانب تصدير النفط والغاز إلى الدول الأوروبية، فيجب الحذر من حلول بعض الصادرات العربية الصغيرة للنفط الخام أو الغاز المسال محل الصادرات النفطية أو الغازية الأصلية؛ لأنَّ هذا التصدير قد يؤدِّي إلى خسارة المصالح الاقتصادية العربية مع طَرَفَيْ الأزمة، والسبب أنَّ دولة المَصدَر الأصلي قد تتَّخذ إجراءاتٍ تجاريةٍ وضريبيةٍ حمائيةٍ ضدَّ الدول العربية التي حلَّت محلَّها من جهةٍ، ولأنَّ الإنتاج العربي لن يُغطِّي -بأيِّ حالٍ من الأحوال- الطلب الهائل من جهةٍ أخرى، الأمر الذي لن يَدفَعَ الدول المستورِدَةِ إلى تقديم أية فرصٍ أو امتيازاتٍ فعليةٍ للدول العربية التي حلَّت محل المَصدَر الأصلي.

والأفضل في هذا الإطار أن تَقومَ الدول العربية المُصدِّرَةِ للنفط والغاز بتصنيع منتجاتِهَا من النفط والغاز ثم تصديرها على شكل سلعٍ؛ فبدلاً من تصدير غاز المنازل على شكل غازٍ مُسَالٍ، يمكن تصدير عبواتٍ صغيرةٍ للغاز مع جهازٍ لاستعمالِه، وهكذا يكون المُستَهلِكُ الأوروبي مُضطرَّاً لشراء عبواتٍ مُستَورَةٍ ذات قيمةٍ مُضَافةٍ إلى مصلحة دولة التصدير العربي مادياً ومعنوياً.

كما لا يَجدُرُ الدخول في مَحرَقَةِ سوق التدفئة الأوروبي، الذي سيَبتَلِعُ -دون شكٍّ- أية صادراتٍ؛ ممَّا يُمثِّلُ ضَغطَاً هائلاً على المُصدِّرِين في تنفيذ العقود بآجالها، كما قد تَضغَطُ الدول الأوروبية -باستخدام علاقَاتِهَا ونفوذِهَا- حتى تَحصَلَ على أسعارٍ غير عادلةٍ للنفط والغاز، أو تُحاوِلُ الضغط من أجل زيادة الإنتاج؛ حتى تَنخَفِضَ الأسعار بشكلٍ غير مباشرٍ.

كما أنَّ أوروبا تمرُّ بأزمةٍ انعكست على سعر اليورو، الأمر الذي جَعَلَ توقيع عقودٍ لبيع غاز التدفئة المسال أشبه بالمقامرة، فقد تحصل الدولة المُصدِّرة في النهاية على نصف قيمة ما تُصدِّرُهُ إذا تضرَّر الاقتصاد الأوروبي أكثر، وكانت عملة البيع هي اليورو أو غيرها من عملاتِ الدول الغارِقَةِ في وحل الأزمة الأوكرانية.
يُضافُ إلى ذلك عدم وجود خط توزيعٍ لوجستيٍّ للتصدير بين الدول العربية والأوروبية؛ الأمر الذي سيَدفَع للاعتماد على طرق الإمداد البحرية التقليدية التي تُعَانِي أصلاً من البطء وأزمة سلاسل الإمداد.

ثانياً: التخلُّص من أعباء ربط بيع السلع والخدمات بعملةٍ أجنبيةٍ بعَينِهَا؛ عبر اعتماد العملة الوطنية أو سلَّة عملاتٍ أجنبيةٍ، ويجب العمل على توحيد السياسة النقدية العربية، إضافةً إلى إمكانية ربط العملات العربية -وبخاصَّة الخليجية- عبر بنكٍ مركزيٍّ واحدٍ، وغيرها من المشاريع التي جاءت فرصةٌ ذهبيةٌ لتطبيقِهَا اليوم.

بهذه الطريقة يمكن إدارة الأزمة عبر معالجَتِهَا بالانتقال من منهج التجنُّب والتحوُّط، إلى منهج تحويل الأزمة إلى فرصة للنمو.
وبعد انتهاء الأزمة سيكون قد تشكَّل لدى الدول العربية تحالفاتٍ اقتصاديةٍ أوسع، وستكون قد تحرَّرت من ثِقل المصالح القديمة التي باتت تُشكِّل عبئاً عليها.

بقلم الدكتور همام القوصي دكتوراه في القانون التجاري تخصص قانون وأنظمة بورصة الأوراق المالية.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار