يظهر لنا جلياً التطور التقني السريع في مجال تكنولوجيا العملات والنقود علي نحو يقودنا إلي عهد جديد يكون فيه التعامل المالي غير مرئي سوي لأطرافه عن طريق لمسة علي شاشات الموبايل ، تدخلك إلي عالم رقمي محرر من كل قيد ، ولا ولاية عليه لبنوك مركزية ، أو سلطات محلية أو دولية ، ولا سيطرة عليه لأي فرد أو مؤسسة .
تجريم التعامل في العملات المشفرة :
وفي البداية أستهل الأمر بالتحذير من التعامل في عملة البتكوين وأخواتها في مصر ؛ لأن المشرع المصري جّرم التعامل فيها بموجب المادة 206 من القانون رقم 194 لسنة 2020 بإصدار قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي ، فلم يتخلي القانون الجنائي أبداً عن العملات و النقود التي يتعامل بها الناس منذ بداية نشأتها عندما كانت عبارة عن ثمر علي الشجر ، أو سنابل قمحاً في الحقل ، أو قطعة ذهب أو فضة تتزين بها النساء للرجال ، فقد فرض القانون الجنائي الحماية علي هذه العملات والنقود للحفاظ علي قيمتها كأداة للتبادل والمقايضة ، وفي كل مراحلة من مراحل التطور كان القانون الجنائي حارساً وضامناً لها ، من كل المخاطر بداية من ضمان قيمتها أو تقليدها أو تزييفها أو تهريبها أو الإمتناع عن التعامل بها .
إلا أن قطار التكنولوجيا السريع يمضي نحو تفعيل هذه العملات المشفرة وتلك النقود الرقمية في كثير من الدول مثل اليابان والمانيا وهولاندا وكورويا الجنوبية والدنمارك واستراليا والعديد من الشركات مثل ميكروسوفت ، وديل ، وصب واي ، ولامبورجيني ، وتسلا .
فالتطور التقني والتكنولوجي يقودنا إلي تطور مقابل في مجال التعامل في النقود ، حيث ولادة العملات المشفرة التي تتيح التعامل غير المرئي لغير أطرافه ، والمحرر من كل قيد ، ولا ولاية عليه لبنوك مركزية ، أو سلطات محلية أو دولية ، ولا سيطرة عليه لأي فرد أو مؤسسة ، فتكون بداية العملية بناء علي عملات ونقود رسمية ، يتم بناء عليها شراء وحدات من العملات المشفرة أو النقود الرقمية لتزول قيمة العملات والنقود الرسمية وتختفي في هذه الأخير العملات المشفرة أو الرقمية ثم يتم التعامل بها في جميع المجالات في نطاق الكيانات التي تعترف بها ،فيتم تحويل مبالغ بالجنيه مثلا من المستثمر إلي المجموعات الفيسبوكية علي المنصات الالكترونية المخصصة لهذا الغرض ، فيتم تحويل مقابلها من وحدات النقود المشفرة إلي حساب المستثمر علي نفس المنصة .
وبالرغم مما توفره هذه العملات من مرونه وسهولة في التعامل ، إلا أن لها آثار ضارة سواءعلي الفرد حيث يتعرض للنصب والاحتيال ولن يجد ساعتها من يقف معه .
أو أثار ضارة علي الدولة حيث تتزعزع الثقة في النقود الرسمية باستخدام العملات المشفرة التي لا تثبت علي قيمة متوازنة ، وأيضاً استخدام هذه العملات في عمليات غير نظيفة كغسل الأموال وتمويل الإرهاب .
ومن هذا المنطلق نحذر من مخاطر التعامل في هذه العملات ، فهي وسيلة من وسائل النصب والاحتيال ، التي يستخدمها النصابون المختفون خلف المنصات الرقمية ، في الإنترنت المظلم للسطو علي أموال الناس ، ويكون من الصعوبة بمكان باللحاق بهم ، في ظل صعوبة إثبات هذه الجرائم ، ناهيك عن تقلبات قيم هذه النقود غير المتخيل ما بين الهبوط والصعود .
ولذلك فقد جاء طوراً جديداً من هذه الحماية الجنائية للعملات والنقود الرسمية ، فكان التدخل لمنع التعامل بعملات غير رسمية أفتراضية مشفرة تصدر من خلال شبكات ومنصات الإنترنت ، والتي يطلق عليها بتكوين أو لايتكوين أو ريبل أو نيمكوين أو بيركوين و غيرها من العملات والنقود المشفرة .
وبذلك يكون المشرع المصري هو الأسبق في تجريم التعامل بهذه العملات الإفتراضية ، حيث تم حظر التعامل بها في مصر ، بموجب المادة ( 206) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي، الصادر بالقانون رقم 194 لسنة 2020 ، والتي تنص على أنه :- ” يحظر إصدار العملات المشفرة أو النقود الالكترونية أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها دون الحصول على ترخيص من مجلس الإدارة طبقاً للقواعد والإجراءات التي يحددها ”
ولقد وضعت المادة 224 من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي المذكور العقاب علي من يرتكب جريمة التعامل في العملات المشفرة و النقود الرقمية ، فنصت علي أنه :- ” مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد منصوص عليها في قانون العقوبات أو أي قانون آخر يعاقب علي الجرائم المبينة في المواد التالية بالعقوبات المنصوص عليها فيها ”
وتنص المادة 225 من ذات القانون علي أنه :- ” يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تجاوز عشرة ملايين جنيه أو بأحدي هاتين العقوبتين كل من خالف أحكام المواد …و 206 …من هذا القانون ، وفي حالة العود يحكم بالحبس والغرامة معاً ”
وعلي هذا النحو نثمن ونؤيد ما قام به المشرع المصري من حظر وتجريم في الوقت الراهن ، حيث لا يتناسب الوقت الراهن مطلقاً مع استخدام هذه العملات ، في ظل غياب متطلبات التعامل بأمان فيها من حيث الضوابط أو الضمانات .
هل يكون التعامل بالعملات المشفرة حتمي :
إلا أن موقف المشرع المصري قد يحتاج إلي تعديل وفقاً للتطورات والمستجدات القادمة ، فالذي يتأمل التطور التاريخي للنقود لا يستبعد عدم الإكتفاء بما هو متعارف عليه حالياً من العملات والنقود الرسمية، بل يكون علي يقين من الوصول إلي مراحل أخري متقدمة من التعاملات المالية ما زالت في طور التكوين ، ويظهر ذلك في التحول المذهل للنقود المادية بشكل تدريجى إلى صورة معلوماتية مجردة، تتقلص خلالها سيادة الدولة والبنوك المركزية وتصبح المعاملات المجردة هى الغطاء الوحيد لتلك العملات المشفرة أو النقود الرقمية ، وليس الغطاءات والأرصدة التي في البنوك .
فمن يقوم بتحليل التطور التاريخى للنقود منذ أن شعر الإنسان بحاجته إلى الأخرين من أجل إشباع حاجاته المتعددة، كانت المعاملات تتم بوسائط مختلفة مرت بالعديد من المراحل، بدأت بمقايضة بيضة بقطعة جبن ، أو حزمة من الحطب بحفنة من شعير ، ثم تطور الأمر لنصل إلي العملات المشفرة أو النقود الرقمية فيما يعرف بالبتكوين .
التحول نحو الافتراضية أصبح أمر واقع :
وفي ظل الميل نحو التحول نحو العالم الافتراضي أتوقع ألا يتوقف الطموح الإنساني عند حد معين في مجال التعامل المالي ، بالرغم من التحذيرات الرسمية من التعامل بهذه المستجدات لما يكتنفها من مخاطر النصب والاحتيال والاستخدام غير الآمن في عمليات غير مشروعة مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب ، وهو ما حدا بدار الإفتاء المصرية بإصدار فتوي بتحريم التعامل في العملات المشفرة أو النقود الرقمية ، وهو أيضاً ما دفع المشرع المصري في خطوة صارمة بتجريم التعامل في هذه العملات المشفرة وتلك النقود الرقمية كما اسلفنا .
ومع ذلك فقد يكون التعامل في العملات المشفرة أمر حتمي في قادم الأيام نظراً لما لها من مميزات في سرعة التعامل ، وقلة التكاليف ، والتحرر من القيود .