• logo ads 2

“ثقافة القوة السوقية.. والحنين إلى المستهلك”

د.همام القوصى يكتب..

alx adv

تعوَّد المواطن العربي على سماعِ جمل التذمُّر من صاحب البقَّالة؛ بأنَّه يُعَانِي من ضَعفِ المردودِ وضَعفِ حركة البيع، وضآلةِ هامش الربح؛ وغيرها من الآهات التجارية.

 

وبعدها، يُخَيَّلُ للمستهلك بأنَّ التاجر يتبرَّع ببضاعَتِهِ، ويَخسَرُ قيمتها، وأنَّه يسيرُ بِخُطَى ثابتةٍ نحو الإفلاس؛ كلُّ ذلك من باب كرم التاجر حتى يعيش المستهلك!

 

في حين أنَّ المستهلك يكونُ في حالةٍ يُرثَى لها من ضيق الحال، والمعاناة بسبب الغلاء الفاحش والمُتَسَارِع بالأسعار؛ والسبب لا يكون إلاَّ جَشَعُ التاجر نفسه الذي يَشتَكِي ضَعفَ المردود وقِلَّة الأرباح!

 

هذه المفارقة السوقية سَبَبُهَا ببساطةٍ هو أنَّ الثقافة التجارية العربية تقوم أساساً على “الفهلوة” وليس “الخدمة”؛ فالتاجر لا يرى في المستهلكين القلائل الذين يستطيعون الشراء، لا يرى فيهم سوى حاجَتِهِم وضيق السُّبل الذي يعانون منه، فبدلاً من أن يُقدِّم لهم السلعة بربحٍ وفق الأصول، يقوم التاجر باستغلال المستهلكين إلى أقصى درجة، دون رحمةٍ، بحُجَّة قلَّة حركة الاستهلاك وقلَّة الأرباح.

 

 

هذه الفهلوة قد تحوَّلت إلى ثقافةٍ تجاريةٍ، فالتاجر الذي يتعامَلُ بضميرٍ مع زبائنه قد أصبح “دقَّةً قديمةً”.

 

وهنا نتساءل: ماذا سَيَنْتُج عن استغلال التجَّار لِمَا تبقَّى من المستهلكين الذين ضَيَّقوا من نطاق الاستهلاك إلى أقلِّ هامشٍ من الضروريات في ظلِّ الارتفاع المُتَسَارِع بالأسعار؟

 

الأمرُ واضحٌ، فإنَّ السوق التي تُعَانِي من ضعف عدد المستهلكين وانخفاض السيولة في أيديهم، هي أشدُّ أنواع الأسواق هشاشةً، وأكثَرُهَا عُرْضَةً للانهيار على شكل الكسادِ التامِّ.

 

وإذا راجعنا معظم الأسواق العربية بعد الأزمات المُتَلاحِقَة التي رافقت العشرية السوداء 2011-2020، ثم أزمة كوفيد-19، وصولاً إلى الأزمة الأوكرانية في 2022، فإنه لم يبقَ من سوى المستهلك طويل العمر! كان معظم الناس في حالة اختصارٍ للنفقات، لكن بعد استمرار الضربات على الرؤوس، فقد أصبح الإنسان العربي في حالة عصرٍ للنفقات إلى درجةٍ تَقتَرِبُ من الجفاف التام. وهكذا، فإنَّ التاجر الفهلوي الذي يستغلُّ ما تبقى من قوةٍ شرائيةٍ لدى المستهلكين، هو في الواقع يدقُّ المسمار الأخير في نعش الاقتصاد قبل إعلان الكساد التام. الحقيقة، أنَّ مجتمع التجار لطالما اتَّصف بالدهاء والاستغلال، لكنَّه لم يكنْ يتَّصف بالغباء الاستراتيجي الذي بِتنَا نراه في الأسواق اليوم.

 

ففي السابق كان التجَّار يتفقون في الأزمات على تقديم عروض أسعارٍ مذهلةٍ، والبيع بسعر التكلفة، وأحياناً عرض السلع بأقلِّ من تَكلُفَتِهَا؛ وهذا ليس عشقاً في عيون المستهلك، بل كانت تلك هي حركات الدهاء التجاري الهادفة إلى تحريك آلة العرض والطلب، وجعل المستهلك يُقبِلُ مرةً أخرى على صَرفِ ما في جيبه. أما اليوم، فنرى أنَّ الغلاء المُتَعَمَّد من التجَّار، يأتي بغرض تحميل المستهلكين مَخَاطِرَ تَغيُّرِ سعر الصرف؛ وهو ما أدَّى إلى انتشار حالةٍ من الذعر لدى المستهلكين الذين باتوا يتمسَّكون بما لديهم من سيولةٍ لسدِّ الرمق الأخير، وشراء اللقيمات الكافية لهم.

 

 

هذه هي القوة التجارية من حيث الموقف الاقتصادي الأقوى الذي سيُدَمِّرُ المستهلك، والذي سيَنقَلِبُ بآثاره السلبية على التاجر نفسه. إنها في الحقيقة قوةٌ مُتَوَهَّمَةٌ ستطرد المستهلكين، وتزيد من مرض السوق، وفساد آلة العرض والطلب.

 

هذا الواقع، أدَّى إلى تلاشي الطلب تقريباً في مقابل العرض الهائل للسلع والخدمات بأسعارها الفلكية؛ والسبب أنَّ التجَّار لا يريدون تحمُّل مسؤولية الظروف المالية الصعبة، ولا يريدون تقديم مبادراتٍ واقعيةٍ لتحريك السوق. هذا الجبن التجاري سيؤذي التجَّار في النهاية، لأنه لا يوجد صانعٌ للسوق غيرهم قادرٌ على تحريك سيولة المستهلكين.

 

هذا الطرح لم يعدْ من الاستراتيجيات التجارية الممكنة، بل أصبح اليوم واجباً حقيقياً على التجَّار، وطوق النجاة لهم من حدوث كسادٍ عظيمٍ سيؤدِّي إلى انتهاء أيَّ أملٍ لهم بالبقاء في السوق.

 

فهل سنرى التجَّار العرب مقبلين على تحمُّل التزاماتهم تجاه مجتمعاتهم، وقادرين على حريك القوة السوقية من جديدٍ عبر مبادرات لكسر الأسعار وتحريك السوق؟ أم أنَّ النهاية ستكون على شكل الحنين إلى المستهلك الوحيد الذي كان يتمُّ استغلاله وعصره حتى آخر قطرة سيولة؟!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار