• logo ads 2

الاحتراب الاقتصادي.. أحد أسرار العصر المالي المظلم

الدكتور همام القوصى يكتب..

alx adv
استمع للمقال

من أكثَرِ ما عَاناَهُ العربُ في زمنِ القبائلِ من مآسٍ، وأشَدِّهَا ألَمَاً في زمن ممالك الأندلس الغائبة الحاضرة، كان الاحتراب الداخلي؛ ولهذا بَقِيَتْ الوحدة حُلماً جميلاً لشعبٍ عريقٍ ذو ضميرٍ وأخلاقٍ وعقيدةٍ واحدةٍ تعلو فوق أيِّ مصلحةٍ أو منفعةٍ.

اعلان البريد 19نوفمبر

والمشكلةُ هي أنَّ ثقافة الاحتراب الداخلي هذه انتَقَلَتْ بعد ولادة “الدولة الحديثة” إلى المجالِ الاقتصادي بين فعالياتِ السوقِ الداخليةِ، حيث البقاء للتاجر الأقوى الذي يَجرِفُ ما تَبَقَّى من خيرات السوق التي دَمَّرَهَا الاحتراب.

فلا يوجدُ حديثٌ يعلو في هذه الأيام عن مشكلات المواطنِ العربيِّ الشرائيةِ، والاحتياطيِّ النقديِّ الأجنبيِّ المتآكل، والتضخُّم، والورق الدولاري، وغيرها من مشاهدِ الرُّعب الماليِّ التي يَرَاهَا الإنسان العربي في عَصرِهِ المُظلمِ هذا.

في الحقيقة، الذي يَنظُرُ إلى هذا الواقعِ الماليِّ الصعبِ، والضغطِ المعيشيِّ الهائلِ على المواطنِ العربيِّ، لا يمكنُهُ تشخيصُ المشكلةُ.

فالمشكلة المالية تكون اقتصاديةً بالأساس؛ أي أنَّ سوقُ المالِ ما هو إلاَّ مرآةٌ للواقعِ الاقتصاديِّ.

فإذا كانت الدولةُ قويةً اقتصادياً، فإنَّكَ تَجِدُ عُمَلَتَهَا الوطنيةَ مُستَقِرَّةً، وسوقَ الأسهمِ لديها سائلةً؛ وهكذا تزيدُ الاستثماراتُ المباشرةِ من قوَّةِ الاقتصادِ.
بالتالي، فإنَّ مشكلةَ السلعةِ التي تَجِدُهَا كلَّ يومٍ بسعرٍ أغلى من سَابِقِهِ، ليس لها تفسيرٌ سوى وجودِ خَلَلٍ اقتصاديٍّ قبل أن يكون مالياً.

وهنا نتساءل: لماذا لم تسقطْ الأسواقُ الماليةُ الأوروبيةُ بسببِ أزمةِ الإغلاقِ مع كوفيد-19 والتي عَصَفَت في دولٍ غير نفطيةٍ؟ بحيث تكادُ دورةُ رأسِ المالِ في هذه الدولِ لا تتوقَّفُ، وإنْ توقَّفتْ فيكون الأمر أشبهُ بالانتحارِ الماليِّ.

ثم نتساءل: لماذا لم تنهار هذه الاقتصادياتُ مع الغلاءِ والتضخُّمِ الذي تسبَّبت به الأزمة الأوكرانية؟ فنحن على أعتابِ طَوْيِ هذه الصفحة أوروبياً وأمريكياً والرجوع عن قرارات رفع أسعار الفائدة، بل وتخفيضها أيضاً.

ولنا أيضاً الحقَّ أن نتساءل: لماذا ما يزالُ الاقتصادُ الروسيُّ ينمو وينمو رغم العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية التي لم يسبقْ مثلها في تاريخ الحروب الاقتصادية؟
ولماذا لم يتحدَّد نمو الاقتصاد الصيني رغم إغلاق السلطات المالية الأمريكية الماء والهواء عن الشركات الصينية الرائدة؟

الإجابة ببساطةٍ، هو أنَّ هذه الدول تتمتَّع باقتصاداتٍ صحيةٍ نشيطةٍ فيها منافسةٌ شريفةٌ؛ الأمر الذي يُصَحِّحُ أيَّ غلاءٍ بالأسعار، ويَرفَعُ أيَّ انخفاضٍ في الجودة، ويتجاوزُ أيةَ أزماتٍ طارئةٍ.

فهل الاقتصاد العربي أقلُّ من هذه الاقتصاديات القوية والراسخة أمام العواصف والفيضانات؟

في الواقع، وللأسف؛ الإجابة “لا”.

المفاجأةُ هي أنَّ الاقتصادُ العربيُّ أقوى بكثيرٍ من مجموع دولٍ عريقةٍ مالياً، ليس في حجم الاقتصاد الحاليِّ أو مجموع الناتجِ القوميِّ الإجماليِّ الحاليِّ، بل في الإمكانيات القائمة “الغائبة” أو “المُغَيَّبَة”، وفي القدرة على التحكُّم بسلاسل الإمداد العالمية، وإخضاع الجميع للإرادة العربية، وإجبار القوى العظمى على احترام الحقوق العربية.

هذه حقيقة فعلية، وليست كلاماً نظرياً.
لكن أين المشكلة إذاً؟

إذا أردنا البقاء على الكلام على الأَمَدِ المنظورِ، فعلينا أن نَبتَعِدَ قليلاً عن الوحدة الاقتصادية العربية، فأمامُهَا الكثير من أسلاكِ الحدودِ الشائكةِ.

من أهم أسباب الهشاشة المالية للدول العربية -كلٌّ على حدة- هو وجودُ منافسةٍ غير صِحِّيةٍ بين جميع مُكوِّناتِ الاقتصادِ؛ المُنتِجِينَ، والمُستَورِدِينَ، والمُوَزِّعِينَ، وتُجَّار التجزئة، وحتى خبراء الصيانة.

فالناتج القومي العربي -على وَاقِعِهِ الحالي- هو أشبهُ بغنيمةٍ تَحتَرِبُ عليها معظم الفعاليات الاقتصادية.

فالمشكلةُ، هي أنَّ ثقافةَ المنافسةِ في الدولِ العربيةِ هي أشبَهُ بالمنافسةِ بين تجَّارِ الجريمةِ المُنَظَّمَةِ؛ “البقاء للأقوى”، والأقوى هو من يُحدِّدُ السعرَ والكميَّاتِ المطروحةِ، وحتى الجودة.

هذه الثقافة “العدوانية” في إدارة رأس المال؛ تؤدِّي بكلِّ سرعةٍ ليس فقط إلى تدميرِ توازنِ الأسعارِ، بل إلى خفضِ جودةِ السلعِ والخدماتِ أيضاً.

لأنَّ الفائزّ في معركة المنافسة التجارية هذه، ليس من مَصلَحَتِهِ وجودُ منافسينَ قادرينَ على تطويرِ الجودةِ، بل إنهُ يحاربُ عمليةَ التطويرِ هذهِ جاعلاً منها عَدَوَّهُ الأولُ.

فإذاً، الاقتصاد الذي يُعَانِي من هذه الثقافةِ العدائيةِ بين مُكَوِّنَاتِهِ، سَتَجِدُ فيه مَصدَرَاً وَاحِدَاً للمواد الأولية بأسعارٍ مبالغٍ فيها وجودةٍ متوسطةٍ أو ضعيفةٍ، أمَّا إذا حاولَ التاجرُ استيرادَ هذه الموادِ بِنَفسِهِ، فهنا يبدأ الاحترابُ من جديدٍ حتى يُشهِرَ التاجرُ الطَّموحُ هذا إفلاسَهُ.

وبعدَهَا نَجِدُ تجَّارَ التجزئةِ خاضعينَ لمنظومةٍ مَخفِيَّةٍ فيما بينهم، الهدف منها تحديدِ الأسعارِ والكمياتِ، هذه المنظومةُ يُطَبِّقُهَا الجميعُ بالتزامٍ مُتَنَاهٍ؛ لأنَّ العاقبةَ لأيِّ تاجرٍ مُخَالفٍ لهذه المنظومة ستكون التدميرَ الشامِلَ لِرَأسمَالِهِ ومُستَقبَلِهِ التجاريِّ.

أمَّا على صعيدِ الصيانةِ، فإنَّ الكثيرَ من الأعرافِ غير المشروعة تَنتَشِرُ في مجتمع الصيانةِ هذا، حيث يكون الخبيرُ “ذو الضمير” مُنْبُوذَاً ومُحَارَبَاً لأنَّه لا يُغيِّرُ قِطَعَ الغيارِ بل يُصَلِّحُهَا إن أمكَنَهُ ذلك، أو لأنَّه يقولُ للمستهلك العيبَ الحقيقيَّ في سيارته مثلاً؛ فالجميع يجب أن يَمنَحَ قَائِدَ “أوركسترا الاستغلال” منفعةً على شكل فاتورة شراءٍ لقطع الغيار شهرياً.

وهكذا، نَجِدُ المواطِنَ يَئِنُّ من الغلاءِ، في الوقت الذي يكونُ فيه السبَبُ ليس “الغلاء الفعلي”، بل الاستغلال وانعدام المنافسة الشريفة بين مكونات الاقتصاد.

وفي حال استمرارِ انهيارِ الاقتصادِ، وتَتَابُعِ الأزماتِ الماليةِ والغلاءِ، فلن تَتَضَرَّرُ عصابةُ التجَّار؛ لأنَّها تحتفظُ بِكُلِّ رأسمَالِهَا بالورق الدولاري أو بالمعادن الثمينة أو بالأسهم الأمريكية أو في الودائع الخارجية؛ وهكذا كلما انهار الاقتصادُ الوطنيُّ كلَّما تَعَاظَمَتْ الثروةُ المُتَشَكِّلَةُ من “النصر” في معركة: “الاحتراب الاقتصادي”.
وهنا علينا الوقوفُ أمام أنفُسِنَا كعربٍ.

ماذا سيَحدُثُ مع نهايةِ هذا الواقعِ الماليِّ المؤلمِ؟ ذلك الذي يُشبِهُ المرآةَ المُحَطَّمَةَ للاقتصادِ.

إنَّ ما نُعَانِي منهُ من غلاءٍ ومعيشةٍ صعبةٍ ليس بسبب ضَعفِ الموارد أو الفَشَلِ في إدارة المال العام فقط، بل هو بالأساس بسبب انعدام “ثقافة المصلحة العامة”.

فالتاجر قد يَرَى أنَّ ثَروَتَهُ هي وَطَنُهُ، فيستطيعُ أن يَشُدَّ الرِّحَالَ إلى أيةِ دولةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، ويَحصَلُ على جِنْسِيَّتِهَا، ثم يعيشُ في: “فردوس العمالة”.

أمَّا التاجرُ الوطنيُّ ذو الضميرِ فقد أصبَحَ عملةً نَادِرَةً، وإذا تواجَدَتْ فلن يعودُ من أهميةٍ لمخزونِ العملاتِ الصعبةِ.

والحلُّ بسيطٌ، فهو يكمنُ في التفريقِ بين المرونةِ والتسهيلاتِ والامتيازاتِ الاستثماريةِ، وبين حماية “الأمن الاقتصادي” للدولة من الاستغلالِ والمنافسةِ غير المشروعةِ.

“قانون المنافسة” ذلك الذي يُشبِهُ اللوحةَ الغريبةَ التي نَستَقْرِئُ فيها ألوانَ الثقافاتِ الأجنبيةِ، يجب أن يَصِلَ هذا القانون في قُوَّةِ رَدْعِهِ الجزائيِّ إلى درجة عقوبات الاتجار بالمخدرات وعصابات الأشرار.

والأهم أن يتمَّ تطبيقُهُ على “التاجر المنتصر” في الاحتراب الاقتصادي، قبل التجَّار الخاضِعِينَ لجَبَرُوتِهِ وإمْلَاءَاتِهِ ونُفُوذِهِ.

على هذا التاجر أن يَرفَعَ الرايةَ البيضاءَ أمامَ الرايةِ الوطنيةِ.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار