• logo ads 2

أفكار بلا أجنحة

بقلم المستشار دكتور محمد جبريل إبراهيم 

alx adv
استمع للمقال

في شارع عبد السلام عارف بمدينة بني سويف، وفي غضون عام 1994 كان هناك فتي نحيل يلبس بشكل دائم بلوفر صوف متسع ومتهدل علي جسمه، ينزل إلي الشارع ويردد بصوت عال أنا الذي نظر الأعمى إلي أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم، وحفظت من ورائه هذه الكلمات عن ظهر قلب بالرغم من صوت الفتي المزعج وإلقائه غير المنضبط.

اعلان البريد 19نوفمبر

 

الفتي يري في نفسه أن لديه أدب يجب أن ينُظر إليه، وأن لديه كلمات يجب أن نستمع إليها، وهو يرفع صوته ويردد كلماته حتي يعلن للناس عن قدومه وعن تواجده.

 

فيبدو أن الإنسان لا يعرف حتمية للسرية ، ولا ضرورة للسكون ، ولا يستريح لفكرة الكتمان ولا للخصوصية ، بل يسعي جاهداً إلي الإعلان والأعلام ، ولا يرضي إلا بالجهر بالأنا ، وإظهار النفس .

 

إنها الطبيعة التي جبل عليها الإنسان منذ أن كان جنيناً في بطن أمه ، وهو يركض ويرفس في أحشائها ، ثم يخرج من رحمها وهو يصرخ ويصيح ليقول ها أنا فد جئت ، ها أنا موجود ، فهي طبيعة الأحياء ، وها هي الطيور تغرد في الصباح لتعلن عن وجودها ، وتخبر الخلق بقدومها .

 

ومنذ القدم والشعراء الكبار أيام الجاهلية يجوبون الأسواق لينشدوا شعرهم أمام الناس ، فتعلق معلقاتهم المميزة علي أستار الكعبة ، لا لشيء إلا للإعلان وحب الظهور ، ورفع الذكر بين العالمين .

وفي هذه الأيام نجد الكثير ممن يقودون حركة السوشيال ميديا ، يبررون كثرة ظهورهم وتعدد منشوراتهم ابتغاء وجه الله ، فيقومون بنشر أفكارهم ويوجهون الجمهور بمنشوراتهم ، ثم بعد ذلك يطرحون السؤال لماذا ننشر أفكارنا ؟؟

 

فيجيب الواقع سريعاً علي السؤال المطروح ويأتي الرد واضحاً بأن دوافع النشر تكمن في متعة الظهور التي يوفرها النشر ، وشغف التواجد الذي تتيحه الأفكار !! ولا يمنع ذلك بأن الغرض من النشر هو حب المعرفة وابتغاء نشر العلم لوجه الله ابتغاء مرضاته .

 

وفي الحقيقة فإنه لا أحد ينكر كل هذه الأسباب من حب العلم ونشر المعرفة ابتغاء وجه الله ، ولكن قد تكون متعة الظهور هي الأكبر !!!

كما أن الإنسان دائماً يضيق ذرعاً بما يجول بخاطره من إرهاصات وأفكار ، ولا يمكنه احتمال الاحتفاظ بها لفترة طويلة داخل جوانحه ، بل يسعي جاهداً إلي نشرها وإبدائها للآخرين .

 

ولعل ذلك يقودنا إلي فكرة هامة وهي أن حب الظهور ، وحب التواجد هو من متلازمات الإنسان ، وقليل من هم يركنون إلي السكون والهدوء وعدم الظهور ، والكثير يري في السكون والكمون والصمت موت كبير ، ولذلك يلجئون إلي مداولة الصيت والسمعة .

 

وفي الحقيقة فإننا نثمن محاولة البداء ، والسعي نحو الظهور الإيجابي ، فما معني الشمس بدون إشراق ، وما معني القمر بدون بدار ، ونحن ماذا تعني أفكارنا التي تحيا وتموت بداخلنا ، ولا تغادر جماجمنا ، فأفكارنا ليس لها أجنحة ، وإن كانت لها أجنحة فهي كأجنحة الطيور الداجنة لا ترفرف بعيداً ولا تحلق عالياً ، وبالتالي مهما كانت الأفكار ذات قيمة ثمينة ، ولكنها لا تملك أجنحة تخترق بها الحدود والآفاق ؛ فإن مصيرها إلي بطون المستغلين واللصوص ، كالبط والإوز والدجاج حين يخُطف من الحظائر ويُذبح علي ولائم المدعين .

ولذلك فيستحسن تخليد الأفكار باسمنا ، ولا تخّلد الفكرة ولا تعّظم إلا عن طريق نشرها وتطبيقها وتنفيذها ، وكذلك عن طريق إطلاقها في الفضاء الواسع الفسيح ، حينئذ يُخلد أصحابها فمن منا لا يعرف ماركوني ، و توماس إدسون ، وجراهام بل ، ومن ينسي كارل ماركس ، وآدم سميث .

 

وليس من المتوقع أن تلقي أفكارنا وخواطرنا استحسان وقبول لدي الجميع ، فالموقف من الأفكار يكون علي ثلاث مواقف :-

(1) المناصرة من المناصرين والأتباع : وهؤلاء لو كان معهم المال لخلقوا للأفكار أجنحة قوية تطير بها وترفرف في عنان السماء .

، وأعرف منهم من يكفل العلماء ممن له أبحاث وأفكار تملأ الأرفف والمكتبات ، لكنها ظلت مركونة و مردومة تحت تراب الزمن ؛ فأفلت وانطفأت ، وانطفأ معها أصحابها الذين بذلوا فيها ماء عيونهم ، وزهرة شبابهم ، ولا يقف معهم غير تلاميذهم .

( 2 ) المعارضة من الكارهين والحساد : وهم معاول الردم والهدم والحجب والتخريب ، وأعرف منهم من بذل الجهد والمال لعرقلة الفكر والبحث والإبداع .

( 3 ) اللا مهتمين : وهم اللا واعين وهم من دخلوا في عالم الأفكار ، وكما دخلوا خرجوا .

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار