• logo ads 2

جراح اقتصادية لم تندملْ.. الاستثمار العقاري الضخم

alx adv
استمع للمقال

بَدَا ظاهراً من الرؤى الاقتصادية العربية المُمْتَدَّةِ إلى ما بعد 2030، أنَّها تتَّجه في معظمها نحو التنمية العقارية باندفاعٍ شديدٍ، حتى وصل إلى حدود بناء مدنٍ جديدةٍ، فهل أعدَّت هذه الدول العربية العُدَّةَ لاحتياطيِّ السيولة المطلوب في مواجهة العرض العقاري الجارِفِ القادم! في واقع التحليل الاقتصادي المنطقي، يجب أن يكون لدى الدولة التي تتَّجه نحو زيادة التنمية والاستثمار العقاري رصيداً معروضاً مزدوجاً من السيولة

اعلان البريد 19نوفمبر

 

أوَّلها، سيولةٌ كافيةٌ من المواطنين والمستثمرين الأجانب لشراء نسبةٍ مقبولةٍ من العقارات التي سيتمُّ عرضها للبيع، أو على الأقلِّ الدفعة الأولى من القروض التي ستُغَطِّي قيمتها، مع الأخذ بعَيْنِ الاعتبارِ ضرورة وجود ضماناتٍ حقيقيةٍ لدى المقترضين، وتأثير تغيير سعر الفائدة في هذه الحالة.

 

وثانيها، سيولةٌ كافيةٌ من متداوِلِيْ السوق المالية للتداول على أسهم الشركات العقارية المدرجة أسهمها في البورصة، فإن كانت تلك السيولة شحيحةً، فهذا سيعني ضحالة التداول على الأسهم العقارية؛ وهذا ما سيؤدِّي إلى ثبات أو انخفاض أسعارها السوقية، ممَّا سينعكس سلباً بشكلٍ مؤكّدٍ على القيمة السوقية للشركات العقارية، ويَحرِمُهَا من قُدْرَتِهَا على الاقتراض؛ لأنَّ مركزها المالي السوقي يكون قد اهتزَّ.

فإن كانت معظم شرائح المجتمع متوسِّطة الحال، تعيش على دعم الدولة أو على الرواتب المدفوعة منها، وبالكادِ تستطيع استكمال أيام الشهر الأخيرة الثقيلة التي تمرُّ عليها ببطءٍ، وإن كانت الشركات الوطنية الاستثمارية في معظمها عائليةً لا تمتُّ بصلةٍ لمفاهيم الإدارة والحوكمة الحديثة؛ فكيف ستَعْتَمِدُ الخطط الاستراتيجية للدولة على المشاريع الاستثمارية العقارية؟ ثم إنَّ المشاريع العقارية المُتَكَاثِرَة بأسلوبٍ جامحٍ يجب ألاَّ تَعتَمِدَ على النموِّ السكاني البتَّة، بل على متوسِّط دخل الفئات المُستَهدَفَةِ؛ أي ببساطةٍ على فئة الشباب المُقْبِلِ على الزواج وافتتاح منزلٍ مستقلٍّ بالدرجة الأولى، ثم فئة المضاربين على أسعار العقارات، وبعض الفئات التي تَرغَبُ بتغيير منطقة سكنها.

في الحقيقة، مُعظمُ هذه الفئات ضعيفة السيولة في المجتمع العربي قياساً بالقيمة العقارية المطروحة للبيع، أو أنَّها ضعيفةٌ من حيث الملاءة المالية والجدارة الائتمانية التي تُخوِّلها الاقتراض.

بالتالي ماذا سيحدثُ بعد نهاية المشاريع العقارية الضخمة إن واجهَتْهَا مجموعة ظروفٍ اقتصاديةٍ سلبيةٍ؟ خاصةً أنَّنا أمام اقتصاد عالمي آخذٍ بالتباطؤ بعد أن أصبح مسرحاً للحروب التجارية خلال الإدارة الأمريكية الراحلة.

يُضافُ إلى كلُّ ذلك أزمة فيروس كورونا التي أتَتْ على فرص العمل، وخفَّضتْ من أسعار النفط، ودَفَعَتْ اقتصاديات الدول الريادية نحو التباطؤ والانكماش، ففي ظلِّ هذه الظروف المُوحِشَةِ، كيف يمكن للاقتصاد العربي ذو الأوصال المتقطِّعة، الواقف على شِفَا الانهيار، والمُستَنِدِ على لُقَيْمَاتٍ من الدعم الدوليِّ المُبتَزِّ، كيف يمكن لهذا الاقتصاد استيعابَ الاتِّجاه نحو المشاريع العقارية الاستراتيجية الضخمة؟! تكْمُنُ المخاطر العقارية في مثل هذه الظروف، بحدوث المراحل التالية:

أولاً انخفاض قيمة العقارات بسبب زيادة العرض على الطلب

ثانياً في انهيار قيمة العقارات بسبب انتشار فشل القروض العقارية نظراً لاضمحلال قيمة العقار المرهون كضمانةٍ للقرض المُقدَّم بغرض شرائه. وإذا رجعنا في الزمن للوراء، سنَجِدُ أنَّ الأزمة المالية العالمية التي نَشَبَتْ عام 2008، كانت بسبب فقاعةٍ ماليةٍ تنتمي إلى المضاربات العقارية الجامحة والابتعاد عن الواقع، فهي بدأت بسبب بيع العقارات الأمريكية عبر قرضٍ عقاريٍّ يقوم بموجبه البنك بتسجيل رهنٍ ضامنٍ لهذا القرض على نفس العقار المَبِيْعِ، على أن يقوم العميل بتسديد أقساط قيمة العقار.

ولكن انخفاض مستوى سيولة المواطن الأمريكي آنذاك، وامتناعِهِ عن تسديد أقساط القرض، قد أدَّى إلى عرض مئات العقارات على البيع في المزادات العلنية؛ ممَّا أدى بالنتيجة إلى انهيار سوق العقار الأمريكي. وما زاد الطينَ بِلَّةً في ذلك الوقت، وساهم في حدوث الأزمة المالية هو “التوريق” “Securitization”؛ أي تحويل القرض ذاته إلى ورقةٍ ماليةٍ قابلةٍ للتداول في البورصة؛ بما يعني أنَّ القرض بحدِّ ذاته يتمُّ تداوله على شكل حقٍّ بين جهاتٍ ترغب بالحصول على حقِّ البنك الدائن في مواجهة مشتري العقار المدين، وهكذا تحوَّل القرض هنا إلى ورقةٍ ماليةٍ يتمُّ تقييمها وفقاً لسعر السوق ارتفاعاً أو انخفاضاً.

وقد اندفع التوريق المالي بشكلٍ غير واقعيٍّ قبل عام 2008، ممَّا أدَّى إلى ارتفاع قيمة العقار الأمريكي، وارتفعت بالتالي قدرة العقار على ضمان قروضٍ بقيمٍ أعلى من قيمته الحقيقية، وقد ساهم وجود بنوكٍ استثماريةٍ في تداول القروض دون وجود احتياطياتٍ نقديةٍ كبيرةٍ نتيجة استناد القرض على قيمة العقار المرهون.

ولكن ما إنْ انفجرت المُتمثِّلة في المبالغة بقيمة القروض المتداوَلة التي تمَّ تقييمها عبر الأوراق المالية، حتى انهارت أسعار العقارات التي تضْمَنُ هذه القروض، وهذا ما أدَّى إلى إفلاس البنوك الاستثمارية التي تداولتْ مثل هذه القروض، حيث ظهر العقار غير قادرٍ على ضمان قيمة القرض، وهو ما انحدر بقيمة الأوراق التي تُمثِّل القروض، ذلك إلى الدرجة التي دفعتْ مالكيها نحو إفلاسٍ محتومٍ.

وبعدها أفلس أحد أعرق البنوك الاستثمارية الأمريكية وهو ليمان بروزيرز Lehman Brothers، وأفلستْ أيضاً شركات التأمين التي كانت تَستَثْمِرُ في ضمان تسديد هذه القروض العقارية، بعد أن اعتقدتْ تلك الشركات أنَّ القروض العقارية شبهُ مضمونةٍ؛ كونها مستندةٌ على رهنٍ عقاريٍّ. بالتالي، فإن السبب المحوريَّ للأزمة المالية في عام 2008 كان الفرق بين قيمة القرض الحقيقي المُستَنِدِ على وجود رهنٍ عقاريٍّ، وبين قيمة الورقة المالية التي تُمثِّل القرض المُستَنِدَةِ على العرض والطلب. حيث إنَّ البنك لا يَمنَحُ قرضاً مضموناً برهنٍ إلاَّ بعد أن يقوم بدراسةٍ عن قيمة العقار فيما لو تمَّ بيعه لتسديد القرض، بينما قد يُحلِّق سعر الورقة المالية التي تُمثِّل القرض في البورصة وفقاً لزيادة الطلب عليها دون النظر إلى العقار الذي يَضْمَنُهَا؛ بالتالي فإنَّ مالك القرض بعد تداوله قد لا يَستَطِيعَ تحصيل قيمة ما دفعه في هذه الورقة إذا انهارت البورصة بسبب المضاربات الخطرة.

وبالنتيجة، فإنَّ قيمة الورقة قد تنهارُ قبل موعد استحقاق القرض، وعندها قد تكون قيمة العقار قد انخفضتْ أيضاً نتيجة بدء استحقاق القروض السابقة، وعرض مئات العقارات للبيع في المزاد العلني في ظلِّ ظروفٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ سلبيةٍ متأثرةٍ بانهيار البورصة، أهمُّ هذه الظروف هو ضعف السيولة وانخفاض الاتِّجاه نحو الاستثمار، الأمر الذي سيدفع أسعار العقارات إلى الانخفاض أكثر. كلُّ هذه العوامل، قد تؤدِّي إلى انخفاض قيمة العقار الضامن إلى ما دون قيمة شراء الورقة المالية، وحتى إلى ما دون قيمة القرض الأساسي. ولذلك، فإن الفقاعة المالية خطرة جداً على الأصول الحقيقية كالعقارات.

وبالإسقاط على المشاريع العقارية العربية الضخمة التي تتوالد بأظافرٍ ناعمةٍ في يومنا هذا، فهي قد تؤدِّي إلى تنميةٍ حضاريةٍ واقتصاديةٍ وبشريةٍ هائلةٍ، ثم ترتفع بقيمة الاقتصاد ومتانة مركز الدولة المالي، ولكنَّها بالمقابل قد تؤدِّي إلى أزمةٍ ماليةٍ كبيرةٍ إن انخفضتْ أسعار العقارات بفعل العرض الجائر؛ خاصَّةً أنَّ العقارات تُعتَبَرُ أجودَ أنواع ضمانات القروض. والحل الواقعي في هذه الحالة يكمن في: # أولاً دراسة التناسق بين اتِّساع المشاريع العقارية وبين قدرة السوق العقارية على الطلب في ظلِّ الظروف الاقتصادية والاستثمارية الحالية، وفي ظلِّ الظروف المتوقعة بعد انتهاء المشاريع والاستعداد لتسليم العقارات.

ثانياً تخفيض قيمة مبلغ القرض العقاري قياساً بقيمة العقار الضامن له؛ فلا يجب إقراض الشخص سوى 30% من قيمة عقاره الضامن

ثالثاً عدم السماح بتوريق القروض أو إعادة التمويل العقاري حتى تأخذ هذه المشاريع مكانَتَهَا، ويهدأ العرض والطلب عليها، وتتَّضح ظروف الاقتصاد الوطني والعالمي مع انقشاع أزمة كورونا. أمَّا إذا استشرت المشاريع العقارية بشكلٍ غير متناسقٍ مع السيولة المطروحة من المستثمرين، وغير واعٍ لضعف مُدَّخرات المواطنين، فإنَّ التاريخ سيُعيد نفسه.. للأسف.

 

بقلم: الدكتور همام القوصي (دكتوراه في القانون التجاري – تخصص بورصة الأوراق الماليَّة)

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار