• logo ads 2

د.همام القوصى يكتب: الادِّخار في جيوبٍ مثقوبةٍ

alx adv
استمع للمقال

عندما كنتُ طفلاً صغيراً، كنتُ أحبُّ تجميع القطع النقدية المعدنية حتى أضَعُهَا في علبةٍ خاصَّةٍ بالادِّخار،

اعلان البريد 19نوفمبر

كان شكل العلبةِ يُشبِهُ ألعاب الأطفال

حيث نَجِدُ عليها رسوماتٍ للكابتن ماجد، والليدي أوسكار، وغرانديزر، وغيرها.

أمضيتُ صيفاً كاملاً خلال عطلة العام الدراسي وأنا أُجمِّعُ بالقطع المعدنية

حتى أستطيع شراء سيارةٍ آليةٍ الحركة بنقودي الخاصَّة دون أن أطلب من أهلي ذلك، وبالفعل ظهر لي أنَّ القطع النقدية تَكْثُرُ

 

وبدأ وزن علبة الادِّخار بالازدياد، وأصبحت تُصدرُ صوتَ خشخشةٍ عاليةٍ.

 

اعتقدتُ في نهاية الصيف بأنَّني قد حَصلتُ على: “تحويشة العمر”، ثم جاء وقت الحقيقة.

 

كَسَرتُ العلبة العزيزة، وبدأتُ بِعَدِّ القطع النقدية، وكانت الصاعقة!! فالمبلغ الذي تجمَّع معي طوال فصل الصيف كان قليلاً جداً.. حتى كدتُ أظنُّ أنَّ العلبةَ كانت مثقوبةً!

لقد أصبح عليَّ أن أتَّخذ قراراً صعباً بتخفيضِ سقفِ طموحي كثيراً

 

وذهبتُ إلى المتجر لأشتري شيئاً آخر، فلم يكفِ المبلغ سوى لشراء بطاريَّتَيْن للاستخدام لمرةٍ واحدةٍ..

 

أي أنّني استطعت الحصول على بطاريات السيارة فقط!! فيما تَكفَّل الأهل بشراء السيارة لي..

واليوم، نرى أنفُسَنَا في حركة عملٍ لا تتوقَّف، وسَعْيٍ مُستَعِرٍ نحو تحقيق أحلامِنَا التي كثيراً ما تصطدم بحواجزٍ ماليةٍ عصيةٍ على التجاوز

 

ويكون السبب دائماً أنَّ المبلغ الذي قُمنا بادِّخاره لا يكفي لشراء الأصول الأساسية للحياة؛ كالمنزل، والسيارة، وغيرها، وكأنَّ جيوبَنَا كانت مثقوبةً.

وأصبحت الصورة الأوضح لهذه المرحلة التاريخية التي تتلو عشرية 2011 الصعبة، أنَّ الإنسان العربي بات يُفكِّر فقط بلقمة العيش

 

واستمرار الحياة، أو “السترة”؛ دون أن يسعى إلى الأحلام الأكبر من عقاراتٍ وأصولٍ ماديةٍ، وإذا حاول الادِّخار فلن يستطيع تأمين سوى ثمن الثلاجة أو عجلة السيارة!

ونُلاحِظُ في معظم الدول العربية أنَّ أسعار العقارات بارتفاعٍ مستمرٍّ بشكلٍ لا يتناسب طرداً مع دخل المواطن

 

لا بل إنَّه يتناسب عكساً مع هذا الدخل في الكثير من الدول العربية

 

أمَّا بالنسبة للقروض العقارية، فهي أشبه بانتحارٍ ماليٍّ بالنسبة للبنك الذي لا يَجِدُ ما يَضْمَنَ القرض في ذمِّة الشخص.

فيما أصبحتْ السيارة نوعاً من الرفاهية غير الضرورية، إلاَّ إذا أراد الشخص أن يكون أسيراً لقروضٍ طويلة المدى

 

بحيث يرى سيارته تتهالك أمامه وهو ما زال يدفع أقساطها، وقد تَرَافَقَ هذا مع ازدياد عدد السكان، واختناق طرق المواصلات، وضعف البنية التحتية للمنشآت العامة.

فلماذا أصبحت ثقافة الادِّخار صعبة التطبيق في الوطن العربي؟ هل لأنَّها لا تتناسب مع الدخل الذي “يطير” مع بداية الشهر؟

في الواقع، أصبح الادِّخار بحدِّ ذاته تَرَفَاً معيشياً للمواطن العربي، لا يناله إلاَّ فئةٌ قليلةٌ من ذوي الدخل المرتفع

 

وهذا يعني وجود طبقاتٍ هائلةٍ من المجتمع تحت أدنى مستوى للمعيشة، حُلمُهم فقط هو العيش يوماً بيوم، وكأنَّ الجيوب مثقوبةٌ فعلاً!

والسبب في ذلك، يعود بشكل أساسي إلى ما يلي:

• ارتفاع قيمة المعيشة، بالمقارنة مع ثبات أو انخفاض قيمة الأجور.

• ارتفاع قيمة العملات الأجنبية -وفي مُقدِّمَتِهَا الدولار الأمريكي-، في مواجهة ثبات أو انخفاض قيمة العملات العربية.

• انخفاض الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية في مخزون معظم البنوك المركزية العربية.

• انخفاض احتياطي المعادن الثمينة في وقت الأزمات، وضعف قدرة معظم البنوك المركزية على التأثير بالأسواق باستخدام هذه المعادن

بسبب الخوف من الحاجة المفاجئة لها.

• انخفاض سعر برميل النفط وباقي الثروات الطبيعية التي تزخر بها الدول العربية، والتي تَذهَبُ هباءً بسبب بيع معظمها في شكلها الخام

 

فيما تقوم الدول الصناعية بإعادة تصنيعها على شكل سلعٍ رفاهيةٍ ثم تُعَاوِدُ بيعها للدول العربية بأضعافٍ مضاعفةٍ ضمن عملية احتيالٍ مُستمرَّة منذ الستينيات.

• تسعير التجار لبضائِعِهِم وخدماتِهِم على أساس سعر الدولار الأمريكي وليس على أساس التكلفة، بالقياس مع سعر تصدير السلع والخدمات

 

مع تجاهل أيِّ دعمٍ يتلقَّونه من الحكومة التي تسعى لكبح الأسعار وتخفيف عبء المعيشة على المواطنين دون فائدةٍ

 

وهكذا تستمرُّ الأسعار بالارتفاع بشكلٍ خياليٍّ لا يُصدقِّه المواطن الذي يقبض دخله بعملة بلده الوطنية.

• انعدام أيِّ وجودٍ فعليٍّ للوحدة الاقتصادية العربية؛ وهكذا نرى دولةً عربيةً تستورد المواد الغذائية بالعملة الأجنبية

مع أنَّ نفس المواد موجودةٌ في دولةٍ عربيةٍ حدوديةٍ معها. فإذا نظرنا لثروات الوطن العربي لوجدناها متكاملةً تماماً في مَجمُوعِهَا

 

وكأنَّها تخصُّ دولةً واحدةً، وفي حال غطَّت كلُّ دولةٍ عربيةٍ النقص الحاصل في دولةٍ عربيةٍ أخرى، لما كان هناك حاجةٌ للاستيراد بالدولار

لأنَّ الدول العربية كانت تستطيع مبادلة السلع والخدمات أو حتى الاستغناء عن الدولار كعملة استيراد، وهكذا كان يمكن أن ينقرض دور الدولار اقتصادياً.

• استمرار تعمُّق الأزمة المالية بسبب وجود فئةٍ من تجَّار العملات غير المُرخَّص لهم

 

الذين يعملون في السوق السوداء على إضعاف قيمة عملات بلدانهم الوطنية حتى يرتفع مخزونهم الشخصي من العملات الأجنبية، وهي خيانةٌ اقتصاديةٌ بكلِّ معنى الكلمة.

في الحقيقة، نحن نعيش آثار عصر الانحدار الحضاري العربي في شكله المالي والاقتصادي، فلم تندثرْ أحلام المجتمع العربي بالعيش الرغيد فقط

 

بل تمَّ -وعن عمدٍ- تهميشه حضارياً، وكان الأسلوب الأكثر نجاحاً من الدول الصناعية الغربية هو تقزيم الاقتصاد العربي

وتشتيت أهدافه، وتبديد ثرواته، وتحطيم أحلام شعبه باسم المنافسة.

 

رغم ذلك، لم نجدْ شعباً عربياً قد تملَّكه اليأس، أو انتشرت فيه ثقافة الانتحار

 

حيث نرى الإنسان ينطلق في يَومِهِ بعد أن يَقُولَ: “سبحان الله وبحمده”، ضارِبَاً في الأرض، باحِثَاً عن قُوتِ يومه

مُحَاطَاً بتفاؤلٍ طوباويٍّ غريبٍ في ظلِّ المصاعب اليومية، وفي مواجهة العصيِّ التي تَنتَظِرُ عَجَلَاتِه المُتَوقِّفَة أصلاً.

 

هذا النبض العالي للشعب العربي هو الأمل، حيث إنَّ الروح الراغبة بالحياة والعمل والاستمرار، هي سرُّ نجاح أيِّ إصلاحٍ اقتصاديٍّ

فلم تقمْ أمةٌ على أساس المال فقط، بل على أساس المجتمع الذي يُدِيرُ ويعمل بكدٍّ على هذا المال من تحت الصفر

 

بلا أيَّة مُدخراتٍ أو مُقدَّراتٍ اعتماداً على هذا “النبض الاقتصادي”.

 

لكن يبقى الخطر الأكبر على مستقبل الاقتصاد العربي كامِنَاً في مدى التمسُّك بالوطن كـ: “غاية” ومُنْطَلَق للعمل، وليس كـ: “مصلحة”.

 

فمهما كانت مغريات الرحيل كبيرةً، إلاَّ أنَّ الإنسان يجب أن يُدرِكَ تماماً أنَّ المكان الذي ينتمي إليه ليس الذي يَمنَحُهُ راتباً أو عملاً أو مكانةً

 

بل هو المكان الذي وُلِدَ فيه بلا اسمٍ، المكان الذي كان ولا يزال يَنْتَظِرُ منه أن يَبْنِيَهُ ويَرْفَعُ عُمُدَهُ عالياً، ذلك المكان الذي لن يَضِيعَ فيه

ولن يَبرُدَ فيه، ولن يَنتَظِرَ فيه شهراً وراء شهر تمديد الإقامة خوفاً من الطرد خارج الحدود.

 

والدروس التي أمامنا تتكرَّر دائماً في مصير الأشخاص الذين يَرهنونَ -مُخَيَّرِيْنَ- انتماءهم الوطني بالمصلحة الشخصية

 

فالنتيجة إمَّا أن تكون غسل دماغٍ وأدلجةٍ، أو تشرُّدٍ في مقابلٍ بائسٍ، وعندما تدقُّ ساعة الحقيقة سيكون مصير الغريب هو الإعدام الثقافي والحضاري.

 

وهكذا، تبقى علبة الادِّخار المعدنية البسيطة، حُلماً طيِّباً بسيطاً، لكنَّه حلمٌ شريفٌ ينبض بالسعي والانتماء، لا الاستجداء.

 

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار