• logo ads 2

القصور التشريعي في حماية السلامة الجسدي

بقلم/ مستشار دكتور محمد جبريل إبراهيم

alx adv
استمع للمقال

الحق في السلامة الجسدية من الحقوق ذات الأهمية العظمي التي تسعي التشريعات إلي كفالتها ، و مع الاعتراف بأن المشرع الوضعي مهما بلغت مهارته فلن يستطيع أن يبلغ حد الكمال في حمايته لحق معين ، ومن ثم فلا محالة من وجود بعض القصور هنا أو هناك، وفيما يتعلق بالحق في السلامة الجسدية ، وباستقراء نصوص الكتاب الثالث من قانون العقوبات المصري الصادر بالقانون رقم 58 لسنة 1937 ، وفي الباب الأول منه الذي يتعلق بالجنايات والجنح التي تحصل لآحاد الناس نجد أن المشرع قد استخدم ألفاظاً معينة في خصوص الاعتداء علي الحق في سلامة الجسد ، وتتمثل هذه الألفاظ في تحديد صور السلوك تحديداً ضيقاً فذكر لفظ :- 1- الضرب ، 2- الجرح ، 3- إعطاء المواد الضارة .

اعلان البريد 19نوفمبر

ومن جهة أخري فقد حدد صور الإيذاء في فيما يلي :-
الجرح ، أو قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته أو كف البصر أو فقد أحدي العينين أو أي إحداث عاهة مستديمة يستحيل برؤها .
ولقد اجتهد الفقه الجنائي في التماشي والتماهي مع هذه النصوص السابقة المشار إليها فحدد عناصر الحق في سلامة الجسد في عناصر محددة وهي :-
1- سير وظائف الجسم وأعضائه سيراً طبيعياً .
2- في تكامل بناءه الجسماني وعدم نقصه .
3- وأخيراً التحرر من الآلام والأوجاع البدنية حسية كانت أو نفسية .
وفي محاولة لاستجلاء سبب القصور الذي يشوب الحماية القانونية للحق في السلامة الجسدية فإن مرجع ذلك يكمن في سببين :-
السبب الأول :- قصر أفعال الاعتداء علي ألفاظ معينة :-
عندما قصر المشرع أفعال التعدي علي سلامة الجسد في الضرب والجرح وإعطاء المواد الضارة ، لم يكن في ذهنه أن السلوك الإجرامي قد يقع من الجاني عن طريق قبلة خادعة ، العلاقة الحميمة بقصد نقل العدوى ، أو قد يقع الاعتداء عن طريق التبرع لبنوك الدم بدم ملوث بغرض الانتقام ونشر المرض ، أو بالمخالطة أو المجالسة لمن أصيب بالجذام لغيره بقصد نقل العدوى إليهم .
وحيث أن قصر المشرع المصري أفعال الاعتداء علي سلامة الجسم علي مجرد الجرح والضرب وإعطاء المواد الضارة ؛ فأدي ذلك إلي عدم استيعاب الأفعال المستجدة لصور الإيذاء المختلفة ، بما يتسبب في قصور الحماية الجنائية للحق في سلامة الجسم التي لا تخضع لهذه الأفعال .
وهذا القصور أدي إلي اجتهاد الفقهاء في محاولة التغلب علي هذه الإشكالية ، ففي نطاق جرائم الإيذاء ، وكما وردت في قانون العقوبات المصري فإن جانباً من الفقه الجنائي قد أشار إلي ضرورة اتباع طرق أكثر مرونة في تفسير هذه النصوص حتي تستوعب ما يستجد من سلوكيات ماسة بسلامة الجسم خلاف ما نص عليه قانون العقوبات ، وذلك لتحقيق القدر الأكبر من الحماية الجنائية للحق في سلامة الجسم؛ إذ لا بد من تجريم كافة صور السلوك التي يتحقق بها مساس واقعي بسلامة الجسم وتكامله ولو لم تطابق هذه الصور ذات النموذج الذي أورده قانون العقوبات في جرائم الضرب أو الجرح أو إعطاء المواد الضارة طالما كان من شأن صور السلوك هذه ، المساس بأحد عناصر الحق في سلامة الجسد .
فالتردي من علو ، وكتم نفس المجني عليه ، و إلقاء مادة حارقة علي الوجه هي أفعال تمس سلامة الجسم ، كما إن تعمد نقل العدوى للغير فيه مساس بهذه السلامة .
وإذا كانت صور الضرب أو الجرح أو إعطاء مواد ضارة هي صور من السلوك المادي المحسوس ؛ فمن ثم يثار التساؤل عن صور السلوك غير المحسوس ؟ فيصدر عن الجاني ويكون من شأنه إيذاء الجسم مثال ذلك التهديد أو التلويح بسلاح مما يؤدي إلي الإخلال بوظائف الجسم فإذا كان هذا التهديد فعل مؤذ فما هو التكييف القانوني السليم له في ظل حصر ألفاظ الاعتداء في لفظ الضرب ولفظ الجرح وإعطاء المواد الضارة ؟
وأيضاً قيام الجاني بجمع المجني عليه مع مريض بمرض معد سريع العدوى في مكان واحد مع توفير سبل انتقال العدوى ، وكذلك اختلاط دم المريض بمرض معد مع دم آخر بسوء قصد ، والمريض بمرض معد الذي يمارس العلاقة الجنسية مع آخر بقصد نقل العدوى إليه ، أو تسليط أشعة ضارة تحدث اضطراباً في سير وظائف الأعضاء ، فكل هذه الأفعال لا تقع تحت فعل الضرب أو الجرح أو إعطاء مواد ضارة !
ويذهب جانب من الفقه إلي أنه كان الأجدر بالمشرع المصري إلا يحدد أفعالاً معينة يترتب عليها الاعتداء علي الحق في سلامة الجسم ، أي كان من الواجب أن يقتصر علي لفظ معين يمكن أن يندرج تحته أي فعل يمس الحق في سلامة الجســـــــــــــم ، مثل لفــــــــــــــــــظ ( الإيذاء ) كما فعل المشرع الفرنسي في المادة 309 و 311 من قانون العقوبات الفرنسي إذ أنه يعد في حكم الضرب والجرح أنواع العنف والتعدي الأخرى ، وكذلك كما فعل المشرع السوري في المادة 50 من قانون العقوبات التي ذكرت الضرب والجرح والإيذاء .
ولقد أخذت محكمة النقض المصرية في سعيها لتفـادي هـذه الإشـكالية بأن جعلت من لفـظ الإيذاء مظلة تندرج تحتها الأفعال التي تمس الحق في سلامة الجسم فاعتبرت ما فعله الجاني من كتم لتنفس المجني عليه الذي ترتب عنه وفاته ضرباً مفضياً إلي الموت .
وكـذلك قضت محكمة النقض الفرنسـية بأن الجاني الذي يجـعل المجني عليه يستنشـق غـازاً يحمل جـراثيم مرض فيصـيبه به يعـتبر معتدياً علي سـلامة جسـمه .
السبب الثاني :- حصر مظاهر سلامة الجسد في عناصر معينة :-
حدد المشرع المصري صور الإيذاء التي تلحق بسلامة الجسد في إحداث الجرح ، أو قطع أو انفصال عضو أو فقد منفعته أو كف البصر أو فقد أحدي العينين أو أي عاهة مستديمة يستحيل برؤها ، أو المرض أو العجز عن الأشغال الناشئين عن الضرب ، ومن صور الإيذاء هذه استنبط الفقه الجنائي مظاهر سلامة الجسد في سير وظائف الجسم وأعضائه سيراً طبيعياً ، و في تكامل بناءه الجسماني وعدم نقصه ، وأخيراً في التحرر من الآلام والأوجاع البدنية حسية كانت أو نفسية .
فأخذ الفقه في ترديد أن الحق في سلامة الجسم يقوم علي ثلاثة عناصر هي :
– السير الطبيعي لأداء أعضـاء الجسـم لوظائفها
– والتكامل الجسدي
– والتحـرر من الآلام البدنية .

إلي أن أظهرت لنا نتائج الطب الحديث أنه يمكن أن يصاب الجسم بفيروس قاتل ، عن طريق سلوك إجرامي متعمد خفي ، أو عن طرق سلوك غير متعمد ، ويظل هذا الفيروس كامنا في الجسم لسنوات عدة دون أن يؤثر تأثيراً ظاهراً في صحة الفرد ، أو تكامله الجسدي ، أو أداء أعضاء الجسم لوظائفها ، ويكون المريض مصاب ومصدر عدوي للآخرين بالرغم من أن مظهره قد لا يدل علي إصابته بالفيروس
فإذا كانت هذه هي مظاهر سلامة الجسم ، فماذا لو تسبب الجاني في إصابة المجني عليه بالإصابة بالعقم ، أو نقل إليه عدوي الأمراض القاتلة وهو لا يشعر ، فهل ذلك الفعل لا ينال ولا يؤثر في سلامة الجسد ؟ وماذا عن إصابة المجني عليه بالمرض عن طريق الخوف، أو إصابته بالقلق الذي يتلف أعصابه ؟ هل لا يمثل ذلك ضرراً للمجني عليه ؟
فإن الإجابة علي هذه التساؤلات تبين أن حصر نطاق مظاهر سلامة الجسد في العناصر الثلاث المشار إليها آنفاً لا يبدو دقيقاً، وذلك لأنه إذا كان من المسلمات أن للكيان المادي للجسم البشري حرمة مصونة ،و قدسية لا تمس إلا في حالات الضرورة العلاجية أو بمقتضي الرضاء الحر المستنير لصاحب الحق ، فإنه لا ينبغي بعد ذلك أن نحصر هذه الحرمة والقدسية التي يتمتع بها الجسم في نطاق ضيق وجامد ، كثيراً ما يظهر قصوره وعدم كفايته كلما ازداد التطور العلمي الذي سوف يفرز لنا دائماً سبل ووسائل جديدة لم تكن متصوره تصيب الجسد بالأذى، ويمكن من خلالها النيل من ســـــــــلامة الجســــــــــــــــم دونما تأثير مباشــــــــــــــر بعناصر ســـــــلامة الجســـــــم التي طالما رددها فقهاء القانون الجنائي .

 

دعوة المشرع للتدخل التشريعي لمعالجة هذا القصور :

بعد هذا العرض تبين لنا مدي القصور التشريعي في حماية السلامة الجسدية ، ومن ثم نهيب بالمشرع التدخل لتعديل النصوص التي تتعلق بالحماية الجنائية للحق في سلامة الجسد لمعالجة هذا القصور التشريعي ،حيث أن الضرورة تستوجب عدم تحديد أفعالاً معينة يترتب عليها الاعتداء علي الحق في سلامة الجسم ،في ظل تطور الحياة وتطور صور الاعتداء بشكل غير متصور ، ومن ثم فمن الواجب ألا يقتصر التعدي علي لفظ محدد ، ولكن يمكن استخدام لفظ مرن يستوعب كل صور الأذى ؛ فيمكن أن يندرج تحته أي فعل يمس الحق في سلامة الجســـــــــــــم ، مثل لفــــــــــــــــــظ الإيذاء .
كما يجب أن توضع نظرة عامة وشاملة للحق في سلامة الجسم ، بحيث تستوعب جميع الاعتبارات حتي نصل إلي حماية ذات نطاق واسع ومرن ، فتكون هذه النظرة قادرة علي ملاحقة التطورات والمستجدات التي تلحُق الأذى بمكونات الجسد ، ويمكن اعتبار مادة الجسم في ذاتها محور ذلك النطاق، إذ ينبغي التعويل دائما علي مادة الجسم في ذاتها وبكافة عناصرها باعتبارها مناط الحماية الجنائية للحق في سلامة الجسد ، ولا ينبغي بعد ذلك البحث عن صور ومضامين محددة تساق علي سبيل الحصر ثم اعتبارها من بعد تمثل حدود هذا النطاق ومضمون ذلك الحق لما يفضي إليه مثل هذا التحديد من انحسار وتضييق حتمي من نطاق الحماية الجنائية للجسم البشري بوجه عام وعن أجزائه وعناصره من غير الأعضاء علي وجه الخصوص .

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار